هذه نتائج تغييب الأطر السياسية
بالرغم من أن الدستور الأردني ينص صراحة ان الحكم في المملكة نيابي ملكي وراثي، الا ان الشق النيابي منه لم يتم تطويره الى الحد الذي يمكنه من ممارسة دوره ضمن اطر سياسية واضحة- اي اطر حزبية تنتج عنها برامج واضحة تنتخب الاحزاب على أساسها وتُمارس فعلا مبدأ الأمة مصدر السلطات المنصوص عليه ايضا في الدستور.
حقيقة الامر أن تطور الحياة السياسية في الأردن جاء معكوسا، ففي حين أن الاطر السياسية تبنى في الدول الديمقراطية تدريجيا لتؤدي الى حياة حزبية فاعلة ونظام من الفصل والتوازن لا يسمح للسلطة التنفيذية بالاستحواذ على جميع مفاصل القرار السياسية والاقتصادية، تطورت الحياة السياسية لدينا بالمقلوب، فبعد ان كانت لدينا احزاب استلم أحدها الحكم في يوم من الايام بناء على قاعدة شعبية، ذهبنا باتجاه طمس الحياة الحزبية النيابية الحقيقية واستحواذ السلطة التنفيذية تدريجيا على كافة مفاصل القرار.
ندفع اليوم ثمن الدولة العميقة، بعد التبريرات انها ضرورة للامن والأمان. بعد أن كنّا نعتمد على الخارج لابقاء نظام اقتصادي غير منتج، جاء الوقت الذي انحسرت فيه المساعدات واضطررنا لرفع شعار الاعتماد على الذات دون ان نطور الاليات والروافع التي تمكّن من تحويل هذا الشعار لحقيقة وضمن اطر مؤسسية.
بعد ان اصبح واضحا ان الازمة الاقتصادية اليوم لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها، آمل ان يكون قد اصبح واضحا ايضا ان حلها لا بد ان يمر عبر بوابة البناء السياسي المؤسسي لأطر يتم من خلالها تطوير البدائل وتجسير الهوة السحيقة بين الدولة والناس. وقد بات واضحا ان سياسة الالتجاء للناس وقت الأزمات فقط وتجاهلهم في باقي الأوقات قد استنفدت.
علت أصوات النواب يوم الاحد الماضي، وبضغط شعبي كبير ضد الحكومة، وفي النهاية بقيت المواقف فردية غير مؤطرة، ولم تطرح بدائل مدروسة، ما ساهم في اعطاء ثقة جديدة للحكومة. وفي كل الاحوال، فإن تغيير الحكومة لم يعد يعني شيئا، فالنهج الحالي في إدارة الدولة يبقى مستمرا مع اي حكومة جديدة.
اما مجلس الأعيان، فمن المفترض ان يعبّر عن زبدة خبرة الدولة في مختلف المجالات. ولكن غياب الإطار السياسي الملائم لعمله جعل نظرة الناس له اقرب الى مجلس وجاهة. فهو لا يبادر لاقتراح البدائل، وقد أصبح أسيرا لفكرة مغلوطة مفادها ان "مجلس الملك" لا يستطيع اقتراح الحلول التي قد تكون في بعض الاحيان معارضة لتوجه الحكومة. لقد اصبح مجلس الأعيان في واقع الحال امتدادا للحكومة، اي حكومة.
كل ذلك يقود الى استنتاج ترفض الدولة استيعابه، وهو أننا لا نستطيع الاستمرار في إدارة البلاد بالأساليب التقليدية. ان عصر الاعتماد على الذات يعني بالضرورة تغيير النهج وليس الاشخاص فقط، ويعني ايضا تطوير الأدوات التي تسمح "للذات" بالتعبير عن نفسها بطريقة مؤسسية، لأن هذه "الذات" لا تقتصر على الحكومة، بل تشمل المجتمع بأسره . وحين يبدو هذا الكلام بدهيا لاي دولة تريد التقدم في القرن الواحد والعشرين، فقد خلقنا "خصوصية" أردنية استنبطت فيها عشرات الأسباب للإبقاء على الوضع الراهن وطريقة الإدارة التقليدية، وشيطنت من خلالها كل المحاولات الاصلاحية الجادة، وسفّهت كافة الآراء التي تدعو للتغيير، وذلك كله للإبقاء على نهج استنفد اي ايجابيات سابقة، ووضعنا اليوم في نفق معتم.
لن تنجح سياسة الاعتماد على الذات دون تطوير أطر سياسية وبرامج عملية تعتمد المؤسسية والتشاركية السياسية، وتجسر الهوة مع الناس، بعد ان اصبح واضحا ان مفهوم الجباية كأساس للخروج من الأزمة الاقتصادية لن يفضي للحل المنشود.
الغد 2018-02-21