الدولة المدنية والدين
لا تعارض بين الدولة المدنية والدين، فلكل منهما مجاله الخاص، فأساس الدولة المدنية دستور؛ يكرس أن الشعب مصدر السلطات، وشعب فاعل بمشاركته في الحكم من خلال مؤسسات الدولة وسلطاتها حيث يخضع الحاكم والمحكوم لسيادة القانون، وعليه لا يجوز أن تكون مرجعية الدولة المدنية وحياً سماوياً ولا دكتاتوراً أرضياً، فالديمقراطية عنصرٌ أساسيٌ من عناصرها، فالدولة التي تنتهك وتصادر حقوق المواطنين وحرياتهم ليست دولة مدنية ولو علا فيها البنيان وعمَ فيها الرفاه. والدولة المدنية لا تحول بين المواطن ودينه ولكنها تحول بين استغلال الدين في السياسة بواسطة رجال الدين أو العداء للدين بواسطة رجال السياسة لتبرير الدكتاتورية وكبت حقوق المواطنين وحرياتهم.
والدولة المدنية دولة لجميع مواطنيها لا تميز بينهم في العرق أو اللغة أو الجنس أو الدين، ولهذا فإن تدين المواطن أو عدم تدينه، أو إيمانه أو عدم إيمانه ليس من شأن الدولة، وليس للمواطن المتدين أو التابع لدين أغلبية الشعب أو التابع لدين أقليته ميزة على غيره، فالدولة كمؤسسات وموظفين تُمارس الحياد بخصوص دين وتدين مواطنيها، ولكن هذا الحياد لا يتعارض مع ان الدولة المدنية قد تتصف وتُعرف بمظاهر دين مواطنيها فيكون لها طابع دين أغلبيتهم، فالزائر لبريطانيا مثلاً يستدل من العطلة الأسبوعية ومن احتفالات الدولة وثقافتها بأنها دولة بطابع مسيحي، إلا أن ذلك الطابع والإرث المسيحي لا يغير من حقيقة أن مرجعية الدولة هي الدستور والقانون فقط.
العملية التشريعية في الدولة المدنية تقوم على أساس توافق الأغلبية البرلمانية، فإن وضعت الأغلبية تشريعاً مستمداً من الشريعة الإسلامية أو المسيحية أو الوضعية فإن هذا التشريع يصبح قانوناً للدولة يطبق على مواطنيها باعتباره كذلك، ولا يعتبر قاعدة شرعية أو دينية، وهذا يتضمن أنه إذا تغيرت الأغلبية البرلمانية فلها أن تغير ذات القانون أو تعدله حسبما تراه مناسباً، فلا قدسية لنص القانون إلا بمقدار استمرار دعمه من قبل الأغلبية البرلمانية، شريطة التزام ذلك القانون بالدستور كمرجعية عليا، فلا يجوز أن يصدر قانون يخالف مبادئ الدستور أو يتعارض مع حقوق وحريات المواطنين وإلا اعتبر القانون باطلاً وللمحكمة الدستورية إلغاؤه.
الدولة المدنية كمفهوم تجاوزت العلمانية كمصطلح إشكالي، كما تجاوزت تأسيس الدولة على المقدس والديني كمفهوم متخيل طوباوي، والأحزاب السياسية التي تطمح باستبدال نصوص الدستور بنصوص قدسية دينية تخرج عن مفهوم الدولة المدنية، وفي هذا النطاق فإنه لا يعيب الدولة المدنية أن تلحق بركبها أحزاب بتوجهات دينية، بعد ان غيرت تلك الأحزاب هدفها المعلن بإقامة دولة دينية وانضوت تحت راية الدستور، قد يقول البعض ان هذا انعطاف تكتيكي لتلك الأحزاب او "تقيةٌ سياسية" وقد يكون هذا حقيقياً وصحيحاً، ولكن في الدولة المدنية لا تملك إقصاء أحد يقبل بقواعد اللعبة السياسية السلمية وعليك ان تقاوم الخروج عن مبادئ الدولة المدنية بالعمل على تحشيد مؤيديك وليس إقصاء معارضيك.
إن نحت مفهوم الدولة المدنية وتبيئته عربياً وأردنياً أمر جيد، فمفهوم الدولة المدنية بمرجعيتها الدستورية يمثل طرحاً سياسياً لمرحلة ما بعد الأيديولوجيا يمينية كانت أم يسارية، وهي وسيلة لقبول جميع الأفكار السياسية ضمن قاعدة المنافسة السياسية في البرلمانات، تلك المنافسة التي تنجح في الوصول الى الحكومة من خلال برنامج وطني للأحزاب في ظل بيئة حرة ترعى تشكيل حكومة أغلبية وحكومة ظل معارضة، وهي بهذا الفهم قد تكون المخرج العصري لنهوض الدولة القُطرية ولتفادي صراع الحضارات باعتباره النتيجة الأخطر دولياً لاستغلال الدين في السياسة.
محلياً نص الدستور الأردني على أن الأردن دولة عربية وأن الإسلام دين الدولة وان الشعب الأردني جزء من الأمة العربية، وهذه مواصفات عامة لطابع الدولة ومواطنيها، ولكن هذه النصوص لا تغير من أن مرجعية الدولة هي الدستور بكافة أحكامه، وهذا لا يتعارض مع اعتزاز المواطنين بهويتهم الدينية سواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية، الدولة المدنية دولة الثقافة والفن والبحث العلمي والحريات الفردية والجماعية، وإن أول خطوات تفعيلها هو حياد الدولة الديني واعتمادها للقانون وتدريب موظفيها على عدم الخلط بين أيدلوجياتهم وعقائدهم وبين أدائهم لواجبهم الوظيفي، فإن رفع الدولة لشعار الدولة المدنية يستوجب أولاً أن تطبق دستورها وتخضع كافة المؤسسات فيها لقاعدة سيادة القانون.
الغد 2018-02-28