الكاميرات وثقافة القانون!
سجلت كاميرات المخالفة الجديدة، التي وضعت في مدينة إربد للسرعة المحدودة وقطع الإشارة الحمراء، قرابة 11 ألف مخالفة، خلال شهر واحد فقط. الطريف في الموضوع أنّ الكاميرات نفسها سجّلت خلال الفترة التجريبية (أي قبل تسجيل المخالفات وتغريمها رسمياً) قرابة 100 الف مخالفة، فقط في أربعين يوماً. والأطرف من ذلك وأنا أقرأ الأخبار عن الموضوع نفسه، في عمّان، أنّ الكاميرات الجديدة التي ركّبتها أمانة عمّان، قبل شهر تقريباً، سجلت خلال 3 أشهر تجريبية (أي قبل تغريم المخالفات) قرابة 300 ألف مخالفة!
هذه المخالفات ستُدفع – في نهاية اليوم- والمواطنون الذين يشتكون من الطفر والفقر والأسعار هم أنفسهم سيضطرون لدفع مئات الدنانير عند دائرة الترخيص قبل أن ينالوا تجديد الرخصة ويستخدموا سياراتهم من جديد، وربما بعدما ينهوا العملية، بألم مالي كبير، سيعودون إلى ارتكاب المخالفات نفسها بانتظار استحقاق العام القادم!
كنتُ أفكّر في هذا السلوك وأحاول تفسيره، لأنّه بصراحة استثنائي، ففي أغلب دول العالم الغربي، تجد هنالك حرصاً شديداً وكبيراً من قبل المواطنين على تجنب مخالفة القانون في الاصطفاف والسرعة والإشارات، ليس فقط لما يترتب على ذلك من كلفة مالية باهظة، بل لأنّها مسألة قانونية وقضائية وتأخذ أبعاداً أكثر حزماً هناك مما لدينا من الاقتصار في الغالب على المخالفات المالية.
لكن دعونا نتوقف، مبدئياً، عند الجانب الثقافي، فالمواطن الأميركي أو الغربي لا يستسهل عموماً المخالفات ودفع الغرامات، وخسارة الأموال بلا اكتراث حقيقي، بينما المواطن الأردني تعوّد في كل شيء على التبسيط والاستسهال، وهي ثقافة وإن كانت تريحه في بعض الأحيان، إلاّ أنّها تسبب مشكلات كبيرة وتؤدي إلى ما نحن فيه من عدم الاعتراف بالقانون في كثير من الأوقات، مقابل الأعراف الاجتماعية التي تقوم على موضوع التبسيط والاستسهلال!
إذا قام سائق متهوّر بدهس طفل أو شخص ما تنهال "الجاهات" على أهل الفقيد أو المصاب، للتنازل عن حقّه، ولولا الحقّ العام، سينتهي الموضوع كما يقال بالعامية بـ"فنجان قهوة"، وسابقاً كان إذا جمّع سائق كمّا كبيرا من مخالفات السير والرادار يقوم بـ"التوسط" لدى أقاربه، فتُمحى المخالفات برمشة عين، ويصبح أبيض كما ولدته أمّه!
وإذا طالب قصّر في الامتحانات الجامعية تمطر الضغوط والوساطات على أستاذه لتنجيحه، وإذا سرق أحدهم نصف رسالة الدكتوراه تتدخل الوساطات لتجاوز المسألة ويصبح دكتوراً يدرّس أبناءنا في الجامعات، وهو لا يستطيع كتابة فقرة واحدة، وإذا سرق أحدهم يتوسط الجميع لتمرير الأمر وعدم معاقبته، وإذا..، ثم في نهاية اليوم نتحدث عن دولة القانون والمواطنة وعن محاسبة الفاسدين والمفسدين وعن ازدواجية المعايير!
ما تزال ثقافتنا الاجتماعية تعود إلى مرحلة "ما قبل سيادة القانون"، وربما كانت الأمور سابقاً أبسط وأسهل، وترتبط بالأعراف والعلاقات أكثر مما ترتبط بنصوص القانون والقضاء والحزم والحسم من قبل الدولة في تطبيق القواعد والأنظمة والتشريعات.
لكن اليوم الأمور تغيّرت وانقلبت رأساً على عقب سواء في تعقّد علاقة الدولة بالمواطنين أو تطوّر المجتمع نفسه، أو الاستحقاق الطبيعي والمنطقي للانتقال إلى نظام قانوني ومؤسساتي بدلاً من العلاقات الاجتماعية، وإلى مفهوم المواطنة بدلاً من الريع والزبائنية.
ذلك كلّه ينهي مرحلة وعهداً ويبدأ بمرحلة جديدة وبحاجة إلى تغيير الثقافة العامة، وهو الأمر الذي يتأتى عبر تعزيز وتجذير مفهوم تطبيق القانون وانتزاع المداخل المؤدية إلى الوساطات والمحسوبيات وتغليب العلاقات الاجتماعية على المفاهيم الحديثة التي نسعى إلى استدخالها في منظومة العلاقة بين المواطن والدولة؟
الغد 2018-03-01