الفشل بما هو انحراف منظومة الأسواق والمجتمعات والسلطات
تتشكل منظومات العمل الاقتصادي والاجتماعي حول فكرة منشئة، وتظل هذه الرواية هي مفتاح الفهم والمراجعة على رغم أنها تغيب أو تنسى مع الزمن، ويبدو المشهد العام للمؤسسات والأفراد والأسواق كأنه لا علاقة له بروايته الأصلية، وفي ذلك يتيه الإصلاح وترتبك بوصلة تنظيم الدولة والمجتمع، وكما لا يمكن فهم المتواليات الحسابية أو الهندسية بغير القاعدة الأساسية التي تعمل فيها، فإن الفشل والتنمية والازدهار والإصلاح لا يمكن إدارتها أو مواجهتها بغير طريقة عمل متوالياتها وتشكلها، ويكون الجدل بطبيعة الحال حول إدراك هذه المتواليات وتفكيكها.
تقوم رواية الازدهار على المصالح والحوافز الإنسانية الأساسية لتحسين الحياة، وأسوأ ما يقع فيه العاملون للإصلاح عندما يربطونه بمنظومة من القيم والأخلاق المستقلة عن الحياة والمبادرات الفردية المنشئة للإبداع والمغامرة، والحال أن الإصلاح لا يضمنه سوى مصالح وأسواق، وهذه المصالح تنشئ القيم الإصلاحية ثم طبقات ومجتمعات تستمد قيمها ووجودها وتأثيرها من الإصلاح. ثم تنشئ هذه الطبقات مصالح ومؤسسات جديدة، فينمو الاقتصاد الإصلاحي ويزدهر. وينشأ نظام اقتصادي قائم على القيم الإصلاحية مثل الثقة والإتقان والإبداع. وتنشأ حول هذه القيم والأسواق منظومة ثقافية إصلاحية جديدة ووعي إصلاحي جديد، وكذلك عادات وتقاليد، علاقات اجتماعية، أسلوب حياة، شعر وفنون وروايات ومسرح وسينما وموسيقى، تستمد وجودها وازدهارها من هذه المنظومة الثقافية. وهذه الثقافة تنشئ موارد جديدة وأسواقاً جديدة كما تعظم الموارد والأسواق القائمة وتحميها. وفي هذا الازدهار تنشأ مدن وطبقات ومصالح ناشئة تطور مجدداً السياسة والاقتصاد والثقافة فتنشأ أسواق وموارد جديدة. هكذا تستمر المتوالية في العمل، لكن قاعدتها الحدية هي المصالح.
وفي المقابل، عندما تستمد أعمال ومصالح وجودها من الفشل والفساد تنشأ أيضاً مجتمعات وأسواق وطبقات قائمة على الفشل، فإذا تكاثرت المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية الخاصة بسبب عجز الحكومة عن تقديم الخدمات الأساسية في التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، فإنها رواية تقتضي بالضرورة أن الفشل يتحول إلى مصالح ومنظومات اقتصادية واجتماعية، وستتكون طبقات ومؤسسات يعتمد وجودها وبقاؤها على الفشل. ومن الطبيعي والمتوقع أن تشتغل هذه الطبقة على الفشل وتسعى الى تكريسه واستمراره. ويتشكل واقع قائم يجد فيه المواطن نفسه في سعيه الى تلبية الاحتياجات والخدمات الأساسية لا خيار له سوى القطاع الخاص، فتتحول الأسواق في علاقتها بالناس إلى إذعان، وتتحكم الشركات بحياة المواطن الأساسية وتتلاشى خياراته، ثم وبطبيعة الحال إزاء ضعف المجتمعات وعدم قدرتها على التأثير في الأسواق، ستتراجع مستويات الخدمات التي تقدمها الشركات ولن يحصل المواطن على سلع وخدمات تتفق في جودتها ومستواها مع الثمن الذي يدفعه، ثم تستتبع الشركات الأجهزة والمؤسسات الحكومية بالعطايا والتسهيلات وتنشئ تحالفات فاسدة في مواجهة المجتمعات، ويكون ضعف المجتمعات هدفاً لتحالف النخب الاقتصادية والسياسية. هكذا تنشأ متوالية للفشل قاعدتها الحدية هي الفشل الحكومي وضعف المجتمعات.
هناك رواية إصلاحية بالطبع للمدارس والمستشفيات الاستثمارية، وهي تقديم خدمات أفضل من الخدمات الحكومية. تقتضي الرواية بالطبع أن تنشأ أسواق ومصالح وطبقات حول الجودة، لكنها رواية تحتاج لاستمرارها إلى وجود خدمات حكومية قوية ومنافسة. ومن الطبيعي أن تنهار رواية التنافس والجودة وأسواقها عندما تنهار الخدمات الحكومية، وهذا هو مفتاح فهم عمل الأسواق وتقييمها بجانب عمل الحكومة، وهي أنها ليست بديلاً للحكومة ولا تؤدي عملها، ولا تقوم على فشلها أو غيابها، لكنها تتكامل وتتنافس معها، وبغير هاتين القاعدتين (التنافس والتكامل) تتشوّه الأسواق والمجتمعات والسلطات.