حين تركت «الشريعة»!
-1-
أذكر في زمن مضى أن شاعرا عربيا كبيرا سألني وقد كنت في الجامعة، ماذا تدرس؟ فقلت له أنني في كلية الشريعة، فقال لي حينها: لا بأس، عندما تنهي تتخصص في دراسة شيء «تقدمي»!
كان واضحا أن ذلك الشاعر، وقد رحل إلى الدنيا الآخرة، كان يحاول أن «يعزيني» على اعتبار أن كلية الشريعة كانت بالنسبة لي التخصص الوحيد المتاح، وأنني اضطررت لدراسة الشريعة بسبب معدلي في الثانوية العامة، والحقيقة كانت غير هذا، فقد كان معدلي يزيد عن الثمانين، وكان يؤهلني للدراسة في معظم التخصصات الإنسانية، ولكنني اخترت دراسة الشريعة عن سبق إصرار وترصد، رغم معارضة بعض الأهل والمعارف، ومع هذا امضيت في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سنة واحدة فقط، وتركتها ملتحقا بدراسة اللغة العربية وآدابها، بكلية الآداب، وجعلت الشريعة تخصصا فرعيا!
-2-
تركت كلية الشريعة (لا الشريعة طبعا!) لأنني لم أرتح لا لمناهجها ولا لطريقة التدريس فيها، ولا لبعض أساتذتها، فكلية الشريعة ليست هي «الإسلام» ومن حق كل أحد أن ينتقدها ويقول فيها ما شاء، ولكن بموضوعية وتجرد وأدب، أما أن تصبح مضغة في ألسنة بعض الكتبة، باعتبارها المبنى المسؤول عن التخلف والتطرف، فهذا أمر مشين ويزيد عن الأدب والأخلاق، كلية الشريعة لا تقل سوءا –إن كان فيها من سوء- عن أي كلية أخرى تدرس العلوم الأخرى، وفيها من المثالب ما في مجتمعنا كله، تخصيص كليات الشريعة بالنقد ورمي السهام كلما دق الكوز بالجرة يعني أن المستهدف هو الدين لا أصحابه فقط، كلية الشريعة ليس بوسعها أن تمنع سيدة من الخروج بملابس النوم إن شاءت، ولا تستطيع أن تمنع من يعشق البيرة من شربها صباح مساء، فلم تختص كلية الشريعة بالنقد والتجريح والانتقاص، فقط لأن لديها آدابا وتقاليد تتسق مع ما يراه أهلها وتعاليم الإسلام؟
-3-
حسب خبرتي المتواضعة، تضم كلية الشريعة خيرة من الطلاب والمدرسين، وهم ليسوا قديسين على كل حال، بل لهم رؤى واجتهادات قد يجانبها الصواب، ولكن أن تتحول كليات الشريعة إلى هدف مفضل لكل من يبحث عن الهنات والأخطاء، فهذا أمر لا يمكن أن يفسر إلا انه تقصد بمهاجمة الدين وأهله، بذريعة نقض «الإسلام السياسي» وتطرف المتطرفين، خاصة وإن مثل هذا السلوك أصبح موضة هذه الأيام، بعد أن أصيبت الحركات الإسلامية بما أصيبت به من استهداف غير مسبوق، حتى إن البعض غدا يحملها مسؤولية كل ما حل بالبلاد الإسلامية من كوارث! كليات الشريعة منارات للمهتدين، وبيوت علم وخبرة لتخريج دعاة متنورين منفتحين على العالم، وهي ليست «حوزات» مغلقة على أهلها، ولا «تنظيمات سرية» ومناهجها توضع بمعرفة مجالس العمداء وإدارات الجامعات، وقاعاتها مفتوحة للجميع، وما يحصل فيها من خطأ –إن حصل- ليس بوصفها كليات شريعة فقط، بل بوصفها جزءا من المجتمع، ويصيبها ما يصيبه من أمراض وفيروسات لا تستثني أحدا!
-4-
للعلم، وحسبما أعرف جيدا، خريجو الكليات العلمية هم الأكثر تدينا، وربما التزاما اكثر من غيرهم، فهل نمنع الناس من دراسة العلوم لأنها تقربهم من الله وتعرفهم به جلت قدرته؟
الإسلام أيها السادة هو ملح هذه الأرض، وهويتها الثقافية والحضارية، وحاضرها ومستقبلها، وربما تكون كليات الشريعة اقل أماكن «تفريخ» التطرف كما يسمونه، وقبل أن تهاجموا كليات الشريعة بوصفها حواضن لـ «المتطرفين» حاربوا الظلم والقمع والعسف والفقر، وتوحش النظام الدولي الذي يفتك بالبشرية، والذي هو سبب كل بلاء!
الدستور 2018-03-18