عمود الصحافة الذي رحل
يلوّح الكتاب الصحفيون بمنديل وداع لأستاذهم، عمود الصحافة الأردنية وشيخ "الزاوية" بلا منازع د. فهد الفانك وهو ظل يكتب "رؤوس أقلام " حتى الاسبوع الأخير قبل وفاته وبنفس السوية رغم التقدم في السن والمرض.
كان فهد الفانك جزءا أصيلا وثابتا من المشهد الوطني يساهم في تشكيله وتكوين خصوصيته، يأتي المسؤولون يظهرون ويختفون من المشهد وهو حاضر دوما من خلال عموده اليومي في الرأي في العقود الثلاثة الأخيرة. كان يرغبه المسؤولون ويخشونه فقد كان ينجدهم احيانا وأحيانا يصعقهم بنقد صارم. ولطالما احدثت مقالاته وآراؤه جلبة على مستوى الرأي العام كما على مستوى دوائر القرار وكثيرا ما كانت مواقفه تذهب عكس التيار الشعبي أو التيار الحكومي لا فرق فلم يكن يراعي ايا منهما، كان يلهب الجو بكل هدوء وبرود. فتأتيه الردود ساخطة واتهامية تنال احيانا من علمه ومهنيته أو تطعن في مصداقيته ووطنيته وفي مناسبات معينة مورس التهديد والترهيب بحقه من خصوم طارئين في المعارضة أو الموالاة، وقلما تمكن اي طرف ان يرتفع في السجال الى دقته ورصانته ووضوحه.
بفضل قلمه تحول الاقتصاد الى مادة قابلة للعرض الصحفي السلس والمهضوم من الجمهور لكن ثمة ما هو أكثر؛ فكتابة الزاوية الصحفية هي فن له مواصفات مرجعية وعمود فهد الفانك صنع مرجعية للمواصفات المثلى لكتابة العمود الإيجاز، وضوح الأفكار، الترابط والتسلسل وجودة اللغة. بدأ بميزة التفرد في تقديم التعليق الصحفي الاقتصادي ثم مع حرب الخليج العام 90 والتحول الديمقراطي واتساع هامش الحرية بدأ يكتب التعليق السياسي وينوع كتاباته فأصبح عموده معلما بارزا وشكل مع طارق مصاروه (شافاه الله وأمدّ في عمره) الثنائي المرجعي للعمود الصحفي. وبدأت المرحلة الذهبية لكتابة العمود الصحفي وظهر لكل صحيفة كتابها الذين تتميز بهم وكذلك للصحف الاسبوعية، ولكن مكانة عمود أبي جهاد لم تتزحزح ابدا.
قرأت اسم فهد الفانك لأول مرة وأنا طالب في نهاية الستينيات على كتاب صغير في الاقتصاد، ولعله كان اطروحة لشهادة جامعية، وعندما عدت للأردن مطلع الثمانينيات كان الفانك يعمل مديرا ماليا في شركة عالية التي فصل منها لاحقا كما تم فصله تقريبا من كل عمل سابق بسبب انتمائه السياسي لحزب البعث. وكثيرون لا يعرفون سيرة الفانك العصامية في الحياة فقد توفي والده وهو بعد في المدرسة فقفز عاما ليعمل بالمترك ويذهب الى العمل، وتعين معلما عن عمر 17 سنة في الحصن. وفي الأثناء حصل على التوجيهي المصري ثم تابع عن بعد دراسة البكالوريوس ثم الدراسات العليا. وفي الاثناء كان يعمل ويفصل.
وفي الرأي تم منعه من الكتابة لعامين لكنه بقي يكتب باسم مستعار. وفي العام 82 ظهرت اسبوعية مميزة "الأفق الاقتصادي" على يد طارق مصاروة ومريود التل استقطبت المغضوب عليهم من الكتاب والصحفيين، واذكر متعة السجالات الاقتصادية الطريفة ورفيعة المستوى بين فهد الفانك وخليل السالم الوزير الاقتصادي لعدة مرات. كانت القبضة الأمنية تحبط الكتاب الصحفيين. وفي جلسة استذكار حميمة مع فؤاد السعد النمري رجل الأعمال الذي يقف الآن على ابواب التسعين وكان قد ورطه اصدقاء صحفيون بإصدار جريدة يومية "الأخبار" في السبعينيات ضمت المغضوب عليهم.
روى محمد داوودية قصصا طريفة (وموجعة) عن الكتابة الصحفية، وقد تم منع أول زاوية كتبها هناك باسم "عرض حال" وعاد لكتابتها في الدستور مطلع التسعينيات ويكتبها الآن في نفس الجريدة. ومع التحول الديمقراطي ظهرت الصحافة الحزبية الاسبوعية واثناء ترؤسي لصحيفة "الأهالي" الاسبوعية عام 92 طلبت من فهد الفانك ان يكتب زاوية فوافق بتواضع وكرم ان يكتب مجانا دعما للصحيفة حتى استقالتي منها بعد عام.
مع كل ميزات فهد الفانك في كتابة العمود هناك المثابرة والالتزام. حتى اثناء سفره او مرضه كان يحتاط بكتابة مقالات أو عند منع مقال يكون محتاطا بكتابة آخر بديل. ومؤخرا كنت اتعجب وافكر كيف انه مع هذا التقدم في السن يكتب بذهن متقد وبنفس السوية وقد بقي كذلك في مرضه الأخير وانسحابه النهائي من الحياة. الى رحمة الله ابا جهاد وليكن ذكرك مؤبدا.
الغد 2018-03-23