إدارة جديدة أم «هيئة أركان حرب»جديدة
لا يتوقف الرئيس الأمريكي عن تبديل “أحصنته”، وفي كل مرة يخرج فيها أحدهم، يأتي بأحد آخر، أكثر يمينية وتشدداً، استبدل مايك بومبيو بريك تيلرسون، وجون بولتون بماكماستر، وأحل جينا هاسبيل محل بومبيو ... وثمة أنباء متواترة من واشنطن، تتحدث عن “وجبة” جديدة من التعيينات، قد تطال اثنين من كبار قادة الإدارة ورموزها.
بقايا محافظين جدد، متطرفون ومتعصبون، متشددون لا يؤمنون بغير خيار “القوة الخشنة” للحفاظ على تفوق أمريكا وهيمنتها، يتجمعون من حول رئيس جاء إلى البيت الأبيض، من خارج النادي السياسي، قليل الخبرة، ويميل للمغامرة والمفاجآت، ومسكون بهاجس شخصه وشخصيته، وبأمريكا العظيمة مجدداً، ما يجعل من هذه الإدارة، أقرب إلى أن تكون “هيئة أركان حرب”، وليست إدارة بالمعنى المتوارث الذي عرفناه وألفناه.
جنرالات كارهون لروسيا و”قيصرها”، مناهضون للصين وانطلاقة المارد الاقتصادي الأصفر، معادون للإسلام والمسلمين إلى الحد الذي تخونهم فيه قدرتهم على ضبط مشاعرهم ومخاوفهم الحقيقية، حلفاء موثقون لإسرائيل وصهاينة أكثر من الآباء المؤسسين لدولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية ... مسكونون بهواجس وأشباح “روسفوبيا” “بوتينفوبيا” “إسلاموفوبيا” “إيرانوفوبيا” وكافة “الفوبيات” التي يمكن أن تخطر ببال.
في سياق هذه التغييرات المتسارعة، وغير المعهودة، صدرت عن هذه الإدارة في سياق تشكلها، أربع استراتيجيات:
الأولى، كونية، وأعلنها ترامب شخصياً، وتصنف أعداء أمريكا وخصومها إلى فئات ثلاثة، رجعيون (روسيا والصين)، ومارقون (كوريا الشمالية وإيران)، وإرهابيون (داعش والنصرة وحزب الله ومن شابههم من وفصائل وأحزاب.
الثانية، عسكرية/استراتيجية، كشف عنها الجنرال جيمس ماتيس، وتشتمل على زيادة وازنة في موازنة الدفاع، تتعدى لوحدها، إجمالي الإنفاق العسكري الروسي بأكثر من 35 بالمائة ... تسعى في انتاج أجيال جديدة من أسلحة الدمار الشامل ووسائط نقلها، وتنقل التسلح إلى الفضاء، مطلقة بذلك، موجة جديدة من سباق التسلح في العالم.
والثالثة، وتهمنا في هذه المنطقة بالذات، وتتعلق بسوريا، وقد أعلنها ريك تيلرسون قبيل إقالته من منصبه، وتنص على الاحتفاظ بقواعد أمريكية دائمة في شرق سوريا وجنوبها، قبالة القواعد – الدائمة أيضاً – في غرب العراق، والتي تسعى واشنطن لانتزاع موافقة الحكومة العراقية عليها، والأمر خاضع كما هو معروف، لسجال عراقي - عراقي، وآخر عراقي – أمريكي، من دون أن تكون طهران، خارج السجالين معاً.
والرابعة، وأكثرها خطورة وقبحاً، وتحمل اسماً كودياً هو “صفقة القرن”، وتتعلق بـ “تفصيل” حل نهائي للقضية الفلسطينية، يتطابق مع المقاييس والمواصفات الإسرائيلية، وتستجيب تماماً لمتطلبات نظرية الأمن الإسرائيلية ونهم إسرائيل للتوسع والاستيطان والتهويد والأسرلة، ودائماً على حساب الشعب الفلسطيني وتطلعاته وحقوقه الوطنية المشروعة، غير القابلة للتصرف.
ومنذ أن اكتمل عقد هذه الإدارة، أو كاد، تنهمر العقوبات من كل حدب وصوب، وتضرب يمنة ويسرة، وتتالى الانسحابات من الاتفاقات والشراكات والمعاهدات الدولية ... عقوبات بالجملة والمفرق ضد إيران، وأخرى ضد روسيا، وحرب تجارية على الصين، ستكبدها خسائر سنوية تفوق الستين مليار دولار ... الفلسطينيون بدورهم لم يسلموا من شظايا حروب هذه الإدارة وعقوباتها، من ملف مكتب المنظمة في واشنطن، إلى تقليص مساعدات الأمريكية لـ “الأونروا” وانتهاء بقرار وقف المساعدات للسلطة، ما لم تمتثل للمطلب العنصري الإسرائيلي بوقف دعم أسر الشهداء والأسرى، أيقونات الكفاح الوطني الفلسطيني في سبيل الحرية والاستقلال.
مثل هذه الإدارة، أو “هيئة الأركان”، تمثل تهديداً مباشرة للأمن والسلم الدوليين، فهي لا تكتفي بنكث عهود الإدارات والتزاماتها، من اتفاقات التجارة إلى المناخ والانبعاثات الكربونية، إلى الاتفاق النووي مع إيران، وهي تدفع العلاقات الدولية والإقليمية إلى “حافة الهاوية” من دون أن تكون لديها أية ضمانات من أي نوع، بأنها لن تنزلق إلى قعرها ... مثل هذه الإدارة/هيئة الاركان، وإن كانت ستتفادى المواجهة المباشرة مع روسيا، وربما مع إيران، إلا أنها ستعمد على تأزيم ورفع منسوب التوتر في الأزمات المفتوحة، وتحديداً في الشرق الأوسط.
بتعيين بولتون على رأس مجلس الأمن القومي، وبومبيو على رأس الخارجية، وهاسبيل على رأس “السي آي إيه”، ليس منتظراً أن تبقى واشنطن ليوم واحد، على التزامها بالاتفاق النووي مع إيران ... الانسحاب من هذا الاتفاق هو أمرٌ مرجح، حتى لا نقول مؤكدا، في الثاني عشر من أيار /مايو المقبل، أما سيناريوهات اليوم التالي، فمتروكة لما يمكن أن تتخذه الدول الأوروبية الوازنة التي تجد نفسها محشورة، بين واشنطن وطهران، فلا هي قادرة على مجاراة هذه، ولا هي قادرة على الاصطفاف إلى جانب تلك، فضلاَ عن الكيفية التي سترد بها إيران على قرار الانسحاب الأمريكي.
سيتنفس صراع واشنطن ضد “لائحة خصومها وأعدائها الطويلة للغاية” في ساحات وميادين عديدة ... وستكون سوريا واليمن والعرق، وربما لبنان في طور لاحق، ميادين اختبار للسياسات المتشددة لليمين الأمريكي العنصري الكاره والكريه ... وستدخل المنطقة في مرحلة احتباس الحلول السياسية، وسينطلق العنان من جديد لحروب الوكالة، وإن بأشكال وصيغ وتحالفات جديدة، وسيشهد الشرق الأوسط وشمال أفريقياً، سباقاً غير مسبوق للتسلح، بما في ذلك في الحقل “النووي” ... فرئيس الدولة الأعظم، الذي لا يتردد عن التصرف بوصفه “مدير مبيعات” للشركات الأمريكية في لقاءاته مع قادة الدول ورؤسائها، لا هم له سوى تصدير هذه الأسلحة “الرائعة” و”الجميلة” وفقاً لتعبيراته الخرقاء في وصف أنواع وأنماط السلاح الأمريكي الحديث ... والرئيس مستعد أن يدعم أي سباق تسلح، بل وأية حروب، طالما أنها ستشغل ماكينة الإنتاج الحربي، وستوفر الوظائف للأمريكيين، وستجلب إلى بلاده مليارات الدولارات ... وسيجد على الدوام، من سيشجعه ويصفق له، من داخل إدارته، ممن عم على يمين يمينه، بعد أن نجح في “حشوها” بكل الغلاة والعتاة، والمؤسف أنه سيجد زبائن لبضاعته، في هذه المنطقة، وربما في غيرها من المناطق.
الدستور 2018-03-27