الزراعة ورأس الجليد لأزمة اجتماعية عميقة
في فيلم أفاتار الذي حظي بإقبال ونجاح جماهيري تاريخي ينتصر المزارعون على القوة الصناعية والتكنولوجية الجبارة، لكن ذلك لم يحدث لشديد الأسف إلا في الفيلم، لكن من المرجح أن العالم يتقدم إلى الزراعة.
ليست قصة الزراعة والمزارعين في البلد تقتصر على الضرائب والتسويق، لكنها تلخص الأزمة الشاملة التي استدرجنا إليها، إذ يجب أن يتشكل حول الزراعة منظومة اقتصادية واجتماعية، وأن يكون المزارعون والعاملون في الاقتصاد الزراعي نسيجا اقتصاديا ومهنيا يمثل حلقة أساسية في تكوين المدن والبلدات والطبقات والنخب، هكذا تنشأ الأسواق والمجتمعات والمصالح والأعمال، لكن غياب التكامل والاتصال بين العمليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يجعلها تعمل ضد بعضها بعضا، فالزراعة تقتضي بالضرورة وجود شراكة أخرى بين المزارعين والصناعات الغذائية والتسويق والتقنيات والمدخلات الزراعية، وإذا لم يكن المزارعون شركاء مستفيدين من المنظومة الاقتصادية والتقنية والاجتماعية الناشئة حول الزراعة فإنهم يتحولون (كما هو حاصل اليوم) إلى فئة مهمشة ومعزولة في مواجهة طبقات وفئات احتكارية ومتعجرفة، وبالتأكيد فإن حل أزمة الزراعة والمزارعين لن يكون في تخفيض أو الغاء الضرائب وتقديم المعونات للمزارعين، لكنها في مساعدة المزارعين في تنظيم أنفسهم وامتلاك التأثير والمشاركة في الاقتصاد الزراعي ومنظومته الاجتماعية والسياسية!
والحال أن حالة "الاقتلاع" التي أنتجتها سياسات الدولة الحديثة أنشأت انفصالا عميقا بين الموارد المباشرة والأساسية وبين أسلوب الحياة، إذ يفترض بداهة أن تنشأ حول المستوى الأول من الزراعة مجموعة من الأعمال التجارية والاقتصادية التي ينشئها المزارعون أو يشاركون فيها، وأن تكون البلدات والمنظمات الاجتماعية والاتحادات المهنية المتشكلة حول الزراعة تعكس مصالح ومطالب واحتياجات المزارعين وقدرتهم على التأثير في السياسات والتشريعات التي تمس مصالحهم وحياتهم.
لا أريد أن أبسّط النظرة والفكرة المتعلقة بالزراعة في بلدنا، ولا التقليل من شأن الإدارة المائية والزراعية أيضا، لكن ما نحتاج إليه هو منظومة حلول وبرامج مختلفة عما هو متبع، وتتحمل قطاعات الدولة الرئيسية (الحكومة والشركات والمجتمعات) مسؤولية إعادة صياغة مواردنا وعلاقتنا بهذه الموارد.
الحلقة المفقودة هي العلاقة مع الموارد، فالمفترض أن تنشأ حول الموارد أنظمة اقتصادية واجتماعية وتجمعات سكانية ومتوالية من الأعمال من المشروعات، وإذا كنا نتحدث عن الزراعة والمياه، فإن ما نحتاج إليه بالفعل هو النظر في التشكلات الاقتصادية والاجتماعية حول الزراعة والمياه، فالمجتمعات تشكل بنفسها أنظمتها الاقتصادية ومواردها حول أو قريبا من الماء أو في أماكن فرص تجميعها والحصول عليه، ويمكنها بعد ذلك أن تنشئ منظومة اقتصادية واسعة في المكان، ففي البادية على سبيل المثال فإنها تنشئ المراعي والزراعات العلفية والصناعات الغذائية القائمة على المواشي، وتطور في أنظمة الري والطاقة الشمسية، وتحلية المياه، والري بمياه البحار على النحو الذي يعظم الزراعة ويفعلها، وتختار من أنواع الزراعة والصناعات ما يتفق مع فرص الحصول على الماء ونوعيته، وتستخدم المواد المتاحة في أنظمة بناء أقل تكلفة وأكثر ملاءمة للمناخ، وفي المناطق الجبلية يمكن إنشاء بلدات تقوم على زراعة الأشجار المثمرة والغابات، وتنشأ بطبيعة الحال حولها صناعات غذائية وخشبية ودوائية تلقائية، وتكيف أيضا أساليب الحياة والبناء على النحو الذي يجعل البيئة المحيطة موردا كبيرا، فالصناعات الخشبية يمكن أن تكون أساسا لاقتصادات واسعة وهائلة في البناء والأثاث والفنون، وتخفيض الاعتماد على الإسمنت والحديد غير المتجددين وغير المتوافرين أيضا، فتقام مبان بتكلفة أقل وبموارد متجددة، وتبقى البيئة في حالة من النمو المتواصل وليس النزف والتلوث والتدمير.
نحتاج إلى مخططات وبرامج تستهدف المجتمعات وجميع الناس، ونحتاج أيضا إلى مجتمعات واعية ومدركة لاحتياجاتها، وتسعى لتنظيم نفسها وفق هذه الاحتياجات والأولويات، وباختصار ليكن السؤال كيف نجتذب نصف السكان إلى الجبال والبوادي والمناطق الزراعية لينشِئوا تجمعات سكانية تدبر احتياجاتها المائية بنفسها، وفي الوقت نفسه يمكن أن تنشِئ لنفسها مستوى أفضل من الحياة والدخل؟
الغد 2018-03-28