إصلاح التعليم وقراءة في الورقة الملكية النقاشية السابعة
جاءت الورقة الملكية النقاشية السابعة في وقتها للحديث عن التعليم كركيزة أساسية للنهوض بالأمة في زمن الألفية الثالثة، وضرورة إصلاح التعليم وتبني ثورة بيضاء لوضعه على المسار الصحيح، بعد أن عرض جلالة الملك المعزز لست أوراق نقاشية سابقة أخذت منحى الإصلاح الشامل ومهّدت لمفاصل مهمة في الديمقراطية والإنتخابات والحزبية والحكومات وسيادة القانون والدولة المدنية التي ركيزتها الديمقراطية والعدالة المجتمعية.
فقد تحدثت الورقة عن القدرات البشرية وتطوير التعليم، لان هذا الملف فعلا هو أساس نهضة الامة وبحاجة ماسة للتطوير وبرامج عملية إصلاحية مرتبطة بمؤشرات أداء، حيث أشر جلالة الملك حفظه الله لمفصل رئيس للنهضة في زمن الالفية الثالثة حيث التعليم هو العمود الرئيس لبناء الجيل القادم وتسليحه باقتصاد المعرفة، كما أشار للتحديات الرئيسة في ملف التعليم بشقيه العام والعالي والتي بحاجة لاصلاح تشمل المناهج وجودة التعليم وتأهيل المعلمين وأساتذة الجامعات ومواءمة مخرجات التعليم العالي وسوق العمل والبيئة التعليمية وتوطين التكنولوجيا والبحث العلمي والشخصية الطالبية ومهارات العصر وتحديات أخرى.
فالاستثمار في القوى البشرية يعتبر الاستثمار الانجح والاكثر ديمومة من أي استثمار وإن كان مكلفا، لانه يعد الثروة الاغنى فوق الارض، حيث نحتاج فعلا لمواكبة لغة العصر والتكنولوجيا الحديثة والتقنيات والمهارات اللازمة من التواصل والعمل المهني والتقني والتفكير الابداعي والتحليل المنطقي والفهم والمقاربة الموضوعية دون تلقين أو حشو للمعلومات.
وتجويد التعليم هو مفتاح رئيس لبوابة الاردن ليكون منارة لتطوير التعليم في الوطن العربي، حيث أن الأردن يضخ الكفاءات النوعية في مختلف التخصصات للوطن العربي الكبير، وبالتالي فإننا لا نحصر خريجينا ببيئة العمل المحلية بقدر ما أننا نخطط ونخرّج لبيئة العمل في دول الخليج العربي الشقيقة وغيرها.
والكرة في مرمى الحكومة وبتكاملية مع المؤسسات الرسمية والخاصة لتبني الافكار التي وردت في الورقة النقاشية الملكية السابعة لتحويلها لبرامج عمل وخطط استراتيجية صوب بناء القدرات البشرية وتطوير التعليم، وربما يتم ذلك من خلال تبني مخرجات لجنة الموارد البشرية وتقريرها الذي يحوي سياسات وآليات وخططا وبرامج تنفيذية صوب ربط الموارد البشرية بالتعليم وبيئة الأعمال والتشغيل وغيرها، ولذلك نتطلع أن يبادر الجميع لترجمة الورقة الملكية النقاشية إلى برامج عمل كلا حسب اختصاصة، لكن الجامعات ربما تكون الحاضنة الانسب لذلك.
نحتاج اليوم قبل الغد لثورة بيضاء استجابة للدعوات الملكية لغايات مساهمة الجميع في تطوير التعليم عاجلا لا آجلا، إذ إن الإرادة السياسية في إصلاح التعليم متحققة من خلال لدن جلالة الملك المعزز الداعم الأول لذلك، وكذلك جهود جلالة الملكة رانيا العبدالله، ولكننا بعد ذلك كله نحتاج لجهود وإرادة وطنية لاستنهاض الهمم وتوليد تيار عملي لا تنظيري لتوليد الإصلاح الحقيقي للتعليم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تطلعنا للتعليم كصناعة لتطوير الإنسان يشارك بها الجميع، وما نحتاجه هو الإصلاح من خلال الجهات التنفيذية والتشريعية والإعلامية والمجتمعية والتربوية وغيرها لتبني فكرة الإصلاح والدفاع عنها وبلورتها على الأرض.
ولعل الجميع يكاد أن يتفق بالمجمل على أن أولويات إصلاح التعليم تتلخص في جملة مفاصل رئيسة أساسها كفاءة الموارد البشرية والتعليمية والنظام التعليمي من حيث المدخلات والمخرجات والبيئة التعليمية والعمليات وغيرها والتي أساسها المعلم وعضو هيئة التدريس، والمناهج التدريسية التي باتت غير محصورة بالكتاب المدرسي حيث شبكة الإنترنت والخليويات الذكية تصنع مجتمع المعرفة وتضع كل مراجع الدنيا في أي مكتبة بالعالم بين يدي الطالب حيث العالم بات قرية صغيرة، والبيئات التربوية والتعليمية والبحثية وتوطين التكنولوجيا، آخذين بعين الإعتبار المؤسسات الإجتماعية والتعليمية المختلفة كالأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام والمنابر الدينية والتعليمية والشبابية والثقافية وغيرها، والبنى التعليمية والبيئات التعليمية المدرسية والجامعية والمرافق والأنشطة وغيرها، وإعادة النظر في مجمل التشريعات الناضمة للتربية والتعليم لغايات التطوير المنشود.
ولعل حركة النهوض الإصلاحي الشامل -السياسي والاقتصادي والاجتماعي- التي تبنتها الدولة الأردنية ضمن بوصلة ورؤى جلالة الملك المعزز كانت نوعية وحسّنت الكثير من مناحي الحياة في ظل ظروف ومتغيرات زمن الربيع العربي، بالرغم من أن بعضها مسّ جزءاً نخبوياً من الشعب كالإصلاحات السياسية، وبالرغم من كل ما تم بناؤه على الأرض من إصلاحات شاملة، لكننا اليوم وقبل الغد بتنا بأمس الحاجة لإصلاحات واقعية وعلى الأرض بل وثورة بيضاء لنظامنا التعليمي بشقيه العام والعالي، لأن هذه الإصلاحات تمس كل بيت وأسرة وفرد ومؤسسة على أرض المملكة الأردنية الهاشمية، وهي ربما أهم أنواع الإصلاحات؛ لأنها تعنى بتهيئة وتعليم وتربية وتدريب وتجويد القوى البشرية القادرة على خوض معترك الحياة وخصوصاً بعد التغيرات الإجتماعية للناس والتي صاحبت هذه الحقبة من الزمان.
وإن كنّا نُقرّ ونؤمن بأن التعليم هو إحدى النقاط المضيئة في وطننا بل وعلى قمّة هرمها، إلّا أن مَنْ لا يُقر بضرورة بل وحتمية إصلاح نظامنا التعليمي كنتيجة لتراجعه بإطّراد –نسبياً بالنسبة لدول العالم الآخر المتقدّم وحتى بعض دول الجوار- كالنعامة التي تضع رأسها بالرمال، فمؤشرات ضرورة الإصلاح واضحة ويكفينا بعض المؤشرات المؤطّرة والتي على رأسها الأميّة بين صفوف طلبة المرحلة الأساسية والتي تجاوزت مائة ألف طالب، وكذلك إخفاق أكثر من ستين بالمائة ممن تقدموا لإمتحان الكفاءة الجامعية، ومحاولات الغش الممنهجة السابقة بالثانوية العامة وحتى الجامعات، وعدم الإهتمام بجودة التعليم ونوعيته وحتى بالتحصيل الدراسي عند معظم الطلبة، وتقدّم الكثير من الدول العربية بمؤشرات الجودة علينا بعد أن كُنّا نسبقها كثيراً في العقد المنصرم، وضعف الطلبة في مهارات التفكير الإبداعي والعمل الميداني والحواري والمهني والتقني وغيرها من المؤشرات.
لا نُنكر البتّة الجهود الفردية والتراكمية عند العديد من الشخصيات التربوية الوطنية وحتى بعض المؤسسات الغيورة على نظامنا التعليمي، لكننا بالطبع نحتاج لثورة بيضاء لإسراع عملية الإصلاح التعليمي ووضع الأصابع على الجروح التي باتت تنزف كالبيئة التعليمية وكفاءة وأداء المدرسين وأساليب التدريس وإهتمام الطلبة والتواصل مع المجتمع المحلي والعالمي وتوظيف طرق التفكير الإبداعي والمواءمة بين الأصالة والمعاصرة وحاجات سوق العمل والتعليم المهني والتقني وتضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة والجامعة وإعادة هيبة المعلم والقضاء على المحسوبية والواسطة وإلغاء الإستثناءات كافة لدخول الجامعات وإعتماد التنافسية الشريفة في ذلك والإبقاء على المنح المالية فقط ووفق ضوابط شفافة، وربط مسألة التوظيف بالكفاءة فقط ليركّز الطالب على التَعّلم، والحد من مسألة النجاح التلقائي، وغيرها.
نحتاج لتوظيف أهداف التعليم العام لتؤطر بناء الشخصية الطالبية وتشكيل منظومة قيمية وأخلاقية ودينية عامة لدى الطلبة إلى جانب الهدف الرئيس في بناء المعرفة، ونحتاج لتبني أساليب جديده ومعاصرة للتعليم أساسها الإبداع والتميز لا الحفظ والصَمْ، ونحتاج لغرس مفاهيم ومهارات عصرية في التفكير الإبداعي وأساسيات الحوار والفهم للأساسيات لدى الطلبة لتكون مدارسنا وجامعاتنا حاضنات إبداع وتميز ومراكز إشعاع فكري.
البعض يتهم نظامنا التربوي بالتراجع الكبير بل وينادي بتبني أنظمة عالمية تمنح شهادات عبور لدخول الجامعات مثل النظام البريطاني “أي جي” والنظام الأمريكي “سات” وغيرها والإستغناء عن التوجيهي، وبعض الأفكار الجديدة في مسألة النجاح والرسوب في الثانوية العامة والنظام الجديد للعلامات من ألف وأربعماية كالتي طرحتها وزارة التربية والتعليم مؤخراً على لسان معالي الأخ وزير التربية والتعليم، وكذلك الجهود الجادّة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتطوير قانوني الجامعات والتعليم العالي والبحث العلمي، وما يحاوله جاهداً معالي الأخ وزير التعليم العالي والبحث العلمي والوزارة لتطوير بعض المفاصل الهامة في كثير من القضايا، إضافة لبعض المواد التي تعكس موروثنا الحضاري والإنساني والأخلاقي والديني، وربما يكونوا مُحقين خصوصاً بعد موجات ومحاولات أساليب الغش التكنولوجية المتطورة في الثانوية العامة سابقاً والجامعات، لكنني أؤكد على أننا ربما نتجاوز عُنق الزجاجة بالإصلاح التعليمي لتكون مُخرجات التعليم العام –وهي بالطبع مُدخلات التعليم العالي- بخير وذلك من خلال نهج جديد وثورة بيضاء لا تُبقي ولا تذر في نظامنا التعليمي وتبني على تراكمية إنجازنا التعليمي الحضاري والجزء المليء من الكأس وتُصوّب الجزء الفارغ منه.
بالطبع نحن هنا لا نحتاج لمؤتمرات واجتماعات وملتقيات ولجان فحسب لتبقى توصياتها حبيسة الأدراج، بل نحتاج على الأرض لإرادة وطنية مستمدة من الإرادة السياسية التي يقودها جلالة الملك المعزز لترسيخ مفاهيم الانتماء والعطاء من القلب لدى عناصر العملية التدريسية بدءاً من المدرس ومروراً بالقيادات والإدارات التعليمية ووصولاً لأصحاب القرار ليكونوا نماذج تُحتذى لدى الطلبة ويؤمنوا بما يوجهونهم إليه، إضافة لدور حكومي مؤثر لتصويب وتصحيح مسارات التعليم العام وأساليب التدريس والبيئة التعليمية والبحثية والميدانية والإبداعية والحوارية والفكرية وغيرها صوب ولوج متطلبات الألفية الثالثة –ألفية التقنية والتكنولوجيا والعلم- بإقتدار كبير؛ لأننا في الأردن نملك رؤوس الأموال البشرية التي هي فوق الأرض دون مصادر ومقدرات طبيعية تحت الأرض، وأتطلع إلى أن يقوم كل بواجبه –حكومة ومؤسسات تعليمية ومجتمعية-بهذا الصدد دون التطلع إلى أن يُقحموا جلالة الملك المعزز للتدخل والعمل على فتح ملف مبادرة إصلاح التعليم.
فنظرات جلالة الملك المعزز استشرافية واستباقية ويضع أصابعه على التحديات والجروح لغايات المساهمة في طرح الحلول وفتح حوار وطني ليساهم الجميع في مرحلة البناء والنماء لتطوير الموارد البشرية من خلال التعليم ذي المستوى المتميز من حيث الجودة والعالمية.
الدستور 2018-03-28