دم البعوض!
من يتابع النقاشات السياسية والشعبية العربية، والأردنية خصوصاً، تجاه الضربات الأميركية ضد سورية، قبل أيام، يستمتع بمناظرات وحوارات مصحوبة باتهامات وشتائم خارج سياق الجغرافيا والتاريخ والسياسة، وكأنّنا نعيش في عالم آخر ما يزال محكوما بشعارات وأفكار أكل عليها الدهر وشرب، لا تمت لما يحدث بصلة!
الطرف الأول، وهو القومي واليساري، المؤيد لسورية، رأى في الضربات تدخّلاً خارجياً أميركياً إمبريالياً سافراً، وانتهاكا لسيادة دولة عربية! جميل، لكنّ من اجتمعوا عند السفارة الأميركية (بالعشرات) لم يقولوا لنا ما هو رأيهم بآلاف الإيرانيين والأفغان والعرب المتواجدين في سورية، وعن القرار السياسي الذي أصبح مرتبطاً بموسكو وطهران بما في ذلك مصير الأسد نفسه. ولم يخبرونا عن رأيهم بملايين المهجّرين والنازحين السوريين الذين لا يستطيعون العودة، ولا عن مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين وعن ركام المدن، وعن الطائفية وإعادة هندسة المجتمع السوري على أساسها، ذلك كلّه خارج إطار الرؤية الأحادية المؤدلجة للرفاق القوميين واليساريين وأحباب الأسد!
الطرف الثاني، رحّب بالضربات، وجادل بأنّها أخلاقياً وسياسياً مقبولة، وربما البعض ما يزال يظن -بعد كل الكوارث والألعاب الأميركية والعربية المكشوفة- أنّ هنالك أجندة دولية لإزاحة الأسد عن السلطة، أو تغيير موازين القوى، أو أنّ الرئيس ترامب، اليميني المتطرف، معني بالشعب السوري أو الكيماوي، أو حتى الدول الغربية التي أصبحت أقرب إلى اليمينية في موقفها من اللاجئين لديها أدنى إحساس أخلاقي بالسوريين ومعاناتهم!
لا أؤيد الضربة الأميركية لسورية لأنّني -باختصار- لست ساذجاً، وأعلم تماماً أنّ المجتمع الدولي ليس معنياً بالسوريين، ولأنّ هذه الضربات لن تغيّر في موازين القوى، بعدما فات الأوان، ولأنّ نتائجها ستكون سلبية وستطلق يد النظام أكثر وأكثر، فالأسلحة التقليدية (من براميل وصواريخ وطائرات) هي التي أدت إلى الكارثة السورية، وليست الأسلحة الكيماوية (على بشاعتها بالطبع)!
لماذا إذاً ردّ ترامب؟ كما ذكرنا سابقاً لعامل سيكولوجي بحت، لأنّه بغروره شعر بأنّ الأسد والروس لا يعبآن به، وأنّهما تجاهلا تحذيراته، ثم عملت المؤسسات الأميركية والحلفاء على فرملة تهوّر الرجل وتحجيم مستوى الضربة وردّ الفعل، لإدراكهم أنّها -أي الضرية- بلا أي قيمة سياسية أو عسكرية!
العرب الذين رحّبوا بالضربة يثيرون الضحك؟! هل هذا هو ردّ الفعل المطلوب؟ والشق المنتظر من الإدارة الأميركية -في الصفقة- لإخراج إيران من سورية، وهل بذلك يتم تحجيم الدور الإيراني؟!
للأسف ما يحدث في سورية، والضربة الأميركية، وردود الفعل الفلكلورية العربية، من كل الاتجاهات، كل ذلك يؤكد أنّنا ما نزال خارج التاريخ ومنطق العالم، ونتفنن في خداع أنفسنا، بينما الأوطان والشعوب والمجتمعات مستباحة من الداخل والخارج!
السوريون، اليوم، يعيشون نكبة كبرى، وقبلهم العراقيون، واليمنيون والليبيون، والفلسطينيون كانوا السبّاقين، وما نزال -نحن العرب- لم نعِد قراءة ما يحدث، لنفكّر بعقلانية وواقعية، وبإنسانية، بمصلحة الشعوب والمجتمعات العربية، وبكيفية إنقاذها، بالمستقبل والأجيال الجديدة، في المخيمات وتحت القصف والأمراض النفسية والكوارث الاجتماعية والسياسية والإنسانية المترتبة على هذا الدمار.
النقاشات العربية -التي تأخذ طابعا قوميا أو وطنيا أو أخلاقيا- تذكّرني بحادثة تاريخية تقول إنّ رجلاً سأل عبد الله بن عمر، عن دم البعوض يصيب المُحرِم. فقال: وا عجبا من قوم يسألون عن دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت نبيهم!
الغد - الاثنين 16/4/2018