من حقنا أن نفهم
يزداد الانشغال العام بالأزمات الصغيرة والمفتعلة التي لا نعرف كيف تبدأ وكيف تنتهي؛ أي من دون أن نعرف خلفياتها ونتائجها؛ فجأة تتدحرج التسريبات والاتهامات وتتحول الى قضايا رأي عام تشغل الإعلام والشارع وتربك أداء المؤسسات والأجهزة التنفيذية، وتثير الخوف في أوساط القواعد الشعبية، فيما تنبري منابر سياسية وإعلامية الى خلق حالة من الريبة والشك والخوف.
خذ، على سبيل المثال، النقاش الدائر منذ أسابيع حول حماية أموال الضمان الاجتماعي، وهو بالمناسبة سجال لم ينته منذ نحو عقدين، وكلما تراجع واختفى عاد من جديد. كذلك الأمر في النظريات التفسيرية لحوادث السطو المتكررة على البنوك وما يحيطها من غموض وأسئلة لا تنتهي، كما هو الحال في النقاش والتأويلات التي تنال من خطة التحفيز الاقتصادي وغيرها من قضايا تصعد فجأة على سلم أولويات الرأي العام.
لم تتوقف مؤسسة بحثية أو حتى باحث مستقل لرصد هذا النمط من الأزمات وتتبعها على مدى العقدين الماضيين، والخروج برؤية تفسيرية لها تجيب عن أسئلة من نمط هل هذه الأزمات مفتعلة أم حقيقية ويوجد ما يبررها؟ وهل هناك من يستثمر فيها ويحطب تحتها؟ وما مستوى كفاءة المؤسسات العامة في الاستجابة وفي إدارة تدفق المعلومات وردود الأفعال حيالها على الأقل.
وفي المقابل، لم نتعود على وضوح رسمي ومؤسسي يقوم على الاستجابة السريعة لحاجة الناس لفهم السياسات العامة والسياق الذي تأتي من خلاله، ولم يتطور أداء مؤسسات المجتمع بما فيها الإعلام نحو لعب الدور المفترض في النقاش العام، فهذه المؤسسات حافظت على شكل وظيفتها التقليدية على الرغم من تغير أدواتها، إنها لا تعمل أكثر من كونها أدوات قابلة للتوظيف السياسي والثقافي، في مقابل هذا كله، يزداد يوما بعد يوم، تغلغل ثقافة سياسية عدمية تنتجها الطبقة السياسية الأردنية، والمثير أكثر أن أكثر ممثلي هذه الطبقة خارج الحكم والمؤسسات.
تبدو الثقافة السياسية المحلية اليوم تتشكل وفق أربع إرادات؛ أولاها وأضعفها إرادة المجتمع الأردني التي لا تملك إلا الترقب والانتظار على ما يكتنفها من تعددية وغموض ولا منافذ فعلية لها على المعلومات العامة، فيما تحاصر بمؤسسات تمثيل ضعيفة وهشة، وإرادة الدولة الأردنية التي تمارس الاختبار والمفاضلة لمزيج من عناصر القوة المتعددة والمتناقضة أحياناً وسط ظروف صعبة، وإرادة طبقة سياسية من المتقاعدين والنخب تمارس استثمارا عدميا في أدوات المجتمع والتعبير من خلالها وادعاء تمثيلها، ولطالما باعت الناس اليأس والخوف والمؤامرة، وأخيرا إرادة حالة الطوارئ التاريخية المستمرة في المحيطين الإقليمي والدولي والتي يبدو أحياناً أنها المقياس لحركة الإرادات الأخرى.
النقاش العام هو الأساس المتين للعمل الديمقراطي، ولا يمكن أن نتصور اكتمال السياسات العامة ونضوجها واكتسابها الشرعي بدون نقاش عام، ولا يمكن أيضا أن نتصور النقاش العام بدون انفعالات وبدون تعددية وسجالات أحيانا، ولكن لهذا النقاش تقاليد ومسطرة تحكمه، ولطالما طورت المجتمعات والدول أدوات هذا النقاش وتقاليده وصاغته على مسطرة الصالح العام. إن جانبا مهما من حالة الأزمات العدمية التي تشهدها بلادنا والتي لا ندري كيف تبدأ وكيف تنتهي أننا لم نطور هذه التقاليد، بينما عملت الطبقة السياسية على هوامش الدولة وأطرافها على تغذية ثقافة سياسية عدمية مخيفة مولدة لليأس والإحباط.
الغد - السبت 21/4//2018