إنّني أعترف!
كفرد من شريحة واسعة من الأردنيين، نتحدث عادةً فيما بيننا، أعترف بأنّني خائف من المستقبل، وأشعر بأنّ هنالك أموراً خاطئة، كما هي قناعة ثلثي الرأي العام الأردني (في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الأخير)، لكن ما يقلقني ليس "زيادة الأسعار" ولا الشأن الاقتصادي (وهي أمور مهمة لا يمكن تجاهلها)، إنّما فجوة الثقة العميقة والشك في قدرة الحكومة على إدارة الشأن العام في هذه اللحظات الحرجة، وربما التعبير الأدق هو غياب الحكومة سياسياً وكأنّها في حالة "كومة".
شاهدت -كغيري من شريحة واسعة من الأردنيين أيضاً- مقطع الفيديو، الذي تعتدي فيه مجموعة على أحد الشباب، وهو ما قد يجادل البعض بأنّه مشهد يمكن أن تراه في أرقى عواصم العالم، وذلك صحيح، لكن الحيثيات والتفاصيل التي اطلعت عليها الأغلبية، هي المرعبة فعلاً، في الوقت الذي ترفع فيه الدولة شعار "دولة القانون" وتقوم بخطوات جديّة في هذا المجال، وتكافح بعضاً من الظواهر السلبية، تأتي مثل هذه القصص وغيرها لتزرع الشكوك في نفوس الناس بمدى إمكانية تجاوز تلك المرحلة من التنمّر على القانون والسير نحو تكريس حياة مدنية.
يجادل المسؤولون لدينا، وهم مقتنعون حتى الصميم في ذلك، بأنّ المشكلة اقتصادية ومالية بالأساس، وأنّ الأولوية لدينا، كما تظهر استطلاعات الرأي، هي في معالجة هذه القضايا! ربما هذا صحيح سطحياً وشكلياً، لكن في العمق، فإنّ المشكلة الاقتصادية مرتبطة عضوياً بالأزمة السياسية، ولا يمكن الفصل بين الاثنتين، وإذا كانت هنالك أولوية اليوم فهي للأزمة السياسية، ذلك أنّ المشكلة الاقتصادية تقتضي مزيداً من الإجراءات والسياسات الصعبة على المواطنين والتي لا يمكن تقبلها بسهولة، بما أنّها تمسّ حياتهم الاقتصادية اليومية.
لذلك من الضروري التفكير اليوم بأهمية الإدارة السياسية التي تعطي مزيداً من الانفتاح، وتضع مسيسين قادرين على الاشتباك مع الشارع لتقديم رواية الدولة ورسالتها، أو في الحدّ الأدنى إعادة تشغيل "المطبخ السياسي" المغلق في الحكومة، وتحريك النخبة السياسية في الدولة، وقبل ذلك الحوار حول معالم المرحلة المقبلة وإحداثياتها.
ما يستدعي اليوم ردّ الاعتبار للعمل والخطاب السياسي هو تلك المشكلات والأزمات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن المشكلات الاقتصادية وغيرها، والتحوّل الكبير في سياسات الدولة الاقتصادية من الاستراتيجيات الرعوية نحو الليبرالية الاقتصادية، ما يعني ضرورة أن يترافق ذلك ويتوازى مع عمل ماكينة سياسية وإعلامية جبّارة كي تضع الناس على السكّة نفسها، ولتجادل وتدافع عن الخيارات الجديدة، ولتضع خطاب الدولة وأجندتها وإزالة الشكوك الكبيرة لدى الناس في مدى قدرتنا على تجاوز المرحلة الانتقالية الراهنة، المسكونة بالمشكلات المالية والاقتصادية والاجتماعية، والتنمّر على القانون والفجوة المتنامية بين الشارع والحكومة.
ما حدث بالقرب من مجمّع جبر قصة لها أبعاد ودلالات متعددة، وحجم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي يكشف مستوى المخاوف والهواجس لدى المواطنين، التي تأججت وتزايدت مع هذه الحادثة، كما هي الحال مع تعدد سرقات البنوك وانتشار المخدرات والتطرف والعنف المجتمعي، من دون وجود شخصيات سياسية فاعلة تمتلك الشرعية الشعبية والبراعة السياسية لتجسير المرحلة الراهنة وصناعة أفق مختلف فيه قدر من الاطمئنان والثقة، بدلاً من الرمادية والضبابية الراهنة!
الغد - الثلاثاء 8/5/2018