جريمة الاسكندرية وأبناء الأمة الواحدة
لم أصدق عيني أمس وأنا أتابع أخبار الجريمة التي وقعت بحق احدى كنائس الاسكندرية لاخوتنا الاقباط الذين دافعوا عن الامة عبر التاريخ أكثر مما دافع الكثيرون.
وقد ساد الذهول الشارع العربي والاسلامي وسيطرت الصدمة على كل ذي عقل سليم.
وعندما كانت وكالات الانباء تتسابق بنقل اخبار الجريمة كنت أتذكَّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذمياً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله". وتذكرت سيدتنا ماريا القبطية ، زوجة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أم ابنه إبراهيم ، رضي الله عنهما ، وتذكَّرت قصة الراهب بحيرى ، وقصة هجرة المسلمين إلى الحبشة ، "إن فيها ملًكاً لا يُظلم عنده أحد" ، وتذكرت أيضاً ، القائدين الخالدين عماد الدين زنكي وولده نورالدين ، عندما كانا كلما يستردَّان مدينة عربية ، في بلاد الشام ، من الصليبيين ، أول ما كان يفعلانه ، إرجاع الكنائس وأموالها ، التي كان الصليبيون ، قد سطوا عليها ، إلى أصحابها الحقيقيين ، نصارى الشرق ، وقد كان يقول امبراطور بيزنطة ، أن مشكلتنا مع المسلمين ، أنهم يسابقوننا على حماية الكنائس ، وحفظ أهلها. وقد جرَّد في أحد الأعوام ، القائد العظيم نورالدين زنكي ، بطل تحرير القدس الحقيقي ، حملة كبيرة وواسعة ، لإنقاذ الكنيسة في أنطاكيا ، عندما سطا عليها وعلى أموالها ، حاكم أنطاكيا آنذاك "أرناط" ، وأعاد الحق إلى أهله ، كما تذكَّرت ، أن صلاح الدين الأيوبي ، عندما وقف على أبواب القدس فاتحاً ، كان بإمكانه أن يدخلها بالسيف ، ولكن خوفه على المقدسات الإسلامية والمسيحية ، على حد سواء ، منعه إلا أن يدخلها بالسًّلْم ، حيث وصله الخبر ، أن الصليبيين ، قرروا إذا دخل صلاح الدين القدس بالسيف ، سيهدمون كنيسة القيامة ، قبل المسجد الأقصى ، كل هذه الأحداث ، تدفقت إلى ذاكرتي وانا اتابع اخبار تلك الجريمة البشعة. وأقباط مصر بالذات لهم شأن خاص ومنزلة متميزة في الاسلام ، فقد أوصى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصية خاصة ، يعيها عقل كل مسلم ويضعها في السويداء من قلبه.
فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر ، فإنكم ستظهرون عليهم ، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله. وفي حديث شريف آخر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. فاستوصوا بهم خيراً ، فإنهم قوة لكم ، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر. وقد صدق الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد رحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين ، وفتحوا لهم صدورهم. وفي الوقت الذي يقود فيه عقلاء الأمة مسيرة الوفاق بين الأديان السماوية وعلى رأس هذه المسيرة مبادرة جلالة الملك عبدالله الثاني ، تحت عنوان "اسبوع الوئام العالمي بين الأديان" ، بدعم دولي منقطع النظير ، ويجاهد فقهاء الامة المستنيرون من اجل تعظيم المشترك بين الاديان السماوية لا زلنا نجد بين ظهرانينا ، من ما زالوا يعيشون ، وكأنهم في كهوف ، لا تصلها أنوار الإيمان الحقيقي ، وأفكار الإسلام ، التي أضاءت الدنيا بأكملها ، حباً وتسامحاً وأُخوَّة.
إننا نعيش في مجتمع واحد ، مسلمين ومسيحيين ، متحابين متعاونين ، والله تعالى يقول في محكم تنزيله ".. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ، الذين قالوا إنا نصارى ، ذلك بأن منهم قسيسين ورهابانا".
وعلى مختلف مراحل التاريخ الإسلامي ، ظلَّ الاحترام الكبير ، يواكب التعاون ، بين المسلمين والنصارى ، كأبناء مجتمع واحد.
لم يعرف تاريخ الديانات ، علاقات مثل العلاقات الاجتماعية ، التي قامت وتوثقت ، بين المسلمين والنصارى ، على امتداد التاريخ ، فهم جيران سكن وشركاء مصير واحد ، لا فرق في التعامل ، بين مسيحي ومسلم ، ونحن ، ما زلنا نعيش ، هذه العلاقات الاجتماعية ، فالمسلم وجاره المسيحي ، أخوان يتعاونان بالمعروف ، يوصي احدهما الآخر ، ببيته إذا سافر ، ويزوره في الأفراح ، مثلما يتشاركان بالاحزان. إن أي محاولة في الطعن في العلاقات الفكرية والسياسية بين المسلمين والمسيحيين في الوطن العربي هي محاولة مشبوهة تدين أصحابها بالجهل والعمالة والحقد وهي بعيدة كل البعد عن أي باعث ديني أو وطني بل إنها محاولة لتكريس دعاوى الأعداء الذين لا يريدون لهذه الأمة أن تجتمع لها كلمة أو يتوحد لها صف أو تقوم لها قائمة. إن ما جرى في الاسكندرية جريمة نكراء تدينها كل الشرائع السماوية وعلى رأسها الإسلام ولا نستبعد أبداً أن تكون أيد خارج إطار المسلمين والأقباط في مصر وراء هذا العبث الدموي ، لذلك نهيب بإخواننا المصريين أقباطاً ومسلمين أن يحكّموا العقل ولا يجعلوا فوران الدم يطغى على تفكير العقل ويتذكروا أنهم عبر التاريخ شركاء في وطن واحد وأمة واحدة ومصير واحد.(الدستور)