الشعب الجديد
لم تمر العقود السبعة من عمر النكبة الفلسطينية بهدوء، ولكن السؤال التاريخي هل قدم الفلسطينيون بالدرجة الأولى ثم العرب ما تستحقه هذه البلاد من تضحيات طوال هذه السنين القاسية، وهل بالفعل لم يكن أفضل مما كان؛ سيبقى هذا السؤال الحرج مؤلما مؤجلا الى حين، ما لم يعمد الفلسطينيون الى مراجعة ذاتية وممارسة نقد ذاتي عميق ليس سياسيا واستراتيجيا، بل ثقافيا وإيديولوجيا لمسيرة السبعين عاما من النكبات والضياع.
حركة إبطاء التاريخ الفلسطيني تعمقت في العقدين الأخيرين أكثر من أي زمن آخر في تاريخ القضية التي تعيش أسوأ لحظاتها التاريخية. فمن دون شك، ستثبت الأحداث أن الفلسطينيين هم أكثر الخاسرين من زمن "الربيع العربي"، ومن التحولات العربية الدامية التي عمدت شوارع عواصم ومدن عربية كثيرة، على الرغم من أن العرب المعاصرين قدموا في مذابح الاقتتال الداخلي، في آخر خمس سنوات، أكثر مما قدموا لفلسطين على مدى قرن مرات كثيرة.
بعد سبعين عاما من النكبة، يتشكل شعب فلسطيني جديد قادر على التضحية أكثر وعلى تحمل الآلام أكثر وعلى الإيلام أكثر؛ فأكثر ما تحتاجه المقاومة الفلسطينية هو شكل جديد لاستنزاف الاحتلال؛ يوظف أشكال المقاومة كافة، البدائية والسلمية والمدنية، من أجل كسر شوكة الاحتلال، فلا شيء يستطيع جعل كيان الاحتلال يعود إلى مراجعة خياراته، في الحرب أو السلام، أكثر من الاستنزاف.
لكن ما يزال خيار الاستنزاف غير مخطط له من قبل الفلسطينيين، كما يبدو على الأرض. إلا أن ماكينة الاحتلال تدرك حجم خطورة هذا الخيار والمصير الذي يقود إليه. فهو بلا شك خيار اليأس الاستراتيجي؛ حينما يصل أحد أطراف الصراع إلى أنه لا فائدة من أشكال المقاومة التقليدية كافة، أو العمل السياسي؛ وأن الفرق في موازين القوى لا يمكن بأي حال اللحاق به. وتلجأ، عادة، قوى المقاومة لهذا الخيار في لحظات اليأس، لأنها تكون على استعداد لتقديم خسائر كبيرة مقابل إيقاع خسائر ولو محدودة، لكنها مستمرة ولا يحتملها العدو على المدى البعيد.
خيار استراتيجية الاستنزاف، وبمفهومه الفلسطيني الجديد، هو الخيار القابل للحياة، والقادر على تصعيد ثلاثة أشكال من الاستنزاف هي: الاستنزاف الاستراتيجي لجيش الاحتلال وإمكاناته البشرية بالدرجة الأولى، وإيقاع ضربات مؤلمة فيه؛ ثم الاستنزاف السياسي للنخب السياسية الإسرائيلية، وتحديدا صورة الدولة الإسرائيلية في العالم وصورة نخبها في الداخل، ما يزيد من أزمتيها الداخلية والخارجية. أما الاستنزاف الاقتصادي فقد يشكل تحديا من نوع آخر، إذا ما استطاعت المقاومة الانتقال إلى مستوى جديد ومتقدم من المقاطعة للبضائع والخدمات الإسرائيلية. وهي يمكن أن تضرب الاقتصاد الإسرائيلي إذا ما انتقلت المقاطعة إلى مستوى العالم الإسلامي والعالم ككل.
هناك ثلاثة تحولات حقيقية تجعل من خيار استراتيجية الاستنزاف قابلة للحياة على الأرض الفلسطينية؛ الأول، ما يدل عليه العديد من المؤشرات على بداية تغير منطق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما يتجاوز منطق التنظيمات التقليدية وأدواتها في المقاومة؛ إذ ثمة يأس فلسطيني عميق ينال منظمة التحرير الفلسطينية وصولا إلى حركة "حماس". بمعنى أن تغيير منطق الصراع وأدواته قادم من الطرف الأضعف، لكنه الأكثر استعدادا لتقديم التضحيات. والتحول الثاني يعكسه ظهور جيل جديد من المقاومين الفلسطينيين من الشباب والشابات، تحديدا الذين تجاوزوا خطوط التقسيمات الفلسطينية التقليدية، إلى جانب ظهور نخب سياسية فلسطينية صغيرة تنتشر هنا وهناك غير مؤمنة بالمنطق السياسي الذي يدير العمل السياسي والمقاومة وتحالفاتها، ويبحث عن طريق جديدة. أما التحول الثالث، فيبدو في عودة المقاومة إلى استخدام أدوات بدائية، وإلى الابتكار في أدوات المقاومة مثلما يحدث كل جمعة في مسيرة العودة، وهو التطور الذي جعل هذا النمط من المقاومة يتسع حتى وصل إلى داخل ما يسمى الخط الأخضر. وأهمية هذه الأنواع من الأدوات أنها قابلة للاستدامة والاستمرار والانتشار، الأمر الذي بدأت تدركه الماكينة الدعائية الإسرائيلية.
لحظة اليأس الفلسطيني لن تقود الى المزيد من الإحباط التاريخي والمزيد من إبطاء التاريخ، بل الى خيار المراجعة والنقد وميلاد شعب جديد، وهذا ما يحدث اليوم.
الغد - الاحد 20/5/2018