عن "القرارات الصعبة"
استهلت الحكومة الحالية مشوارها السياسي، بعد الانتخابات النيابية، بتكرار الحديث والتلويح بوجود "قرارات صعبة" ستضطر إليها لمواجهة الاستحقاقات المقبلة. القراءة المباشرة والرئيسة لهذه القرارات اتجهت صوب الشأن الاقتصادي.
في مطالعة مباشرة لمشروع الموازنة العامة، لا يوجد ما يشير إلى مثل هذه القرارات، إذ إنّ الدعم والنفقات الجارية على المنوال نفسه تقريباً، خلال العام 2010، وتتجاوز قيمة الدعم المباشر وغير المباشر نصف البليون دينار، إذا أضفنا العلاجات الطبية وصندوق المعونة الوطنية، فيما تؤكد الأوساط الرسمية عدم نيّة الحكومة رفع الدعم عن السلع الرئيسة أو فرض ضرائب جديدة معلنة أو مبطّنة.
في المقابل، هنالك تقشف حتى في توقع المنح الخارجية، مقارنةً مع ما كان يحصل في سنوات سابقة، إذ تشير الملامح الرئيسة للموازنة إلى تراجعها بنسبة 30 %، رغم أنّ ذلك هو "الحد الأدنى" من التوقعات، لكنه الأضمن، فيما يشير هامش في الموازنة إلى أنّ المتحقق من هذه المنح يبلغ 180 مليونا، أما الـ120 مليونا الأخرى فيتم ربطها بمشاريع محددة، فيما لو أتت، ولا يتم الاعتماد عليها في غير ذلك.
إذن، أين هي القرارات الصعبة؟ البوصلة الرئيسة هنا تشير إلى رد رئيس الوزراء على مداخلات النواب، وتحديداً في مسألة دعم السلع والخدمات الأساسية، وفي التفكير بابتكار آليات لتقنينه صوب الفئات المستهدفة منه والمستحقة له، أي ما دون الطبقة الوسطى، بدلاً من دعم السلع نفسها والخدمات، إذ إنّ جزءاً كبيراً من الدعم يذهب باتجاه إما الرعايا والوافدين الأجانب، وهم بمئات الآلاف، أو نحو فئات اجتماعية ميسورة الحال، أي طبقة وسطى وما فوق، كما هي الحال بالنسبة للغاز والخبز وفاتورة الماء والكهرباء.
عموماً، تحسب الأوساط الحكومية الموازنة بصورة رقمية بحتة، أي أنّها تقارن بين حجم الضرائب من جهة وحجم النفقات من جهة أخرى، وتشير إلى الخلل في ذلك، بالإضافة إلى اعتبار أنّ مبدأ الدعم نفسه هو خلل في الموازنة العامة.
بالطبع، هذه الرؤية يمكن تطبيقها على دول متقدمة وليبرالية تمتلك ديناميكيات اقتصادية تستوعب الشرائح الاجتماعية المختلفة، وتضمن فرص العمل والحياة الكريمة، لكن الحال هنا استثناء، إذ إنّ شرائح اجتماعية واسعة ما تزال عاجزة عن التكيف مع الدورة الاقتصادية، ونسبة من هم دون الطبقة الوسطى أو الطبقة الوسطى الدنيا تبدو مرتفعة كثيراً، حتى في دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأخيرة. ذلك يقتضي التفكير مليّاً في مثل هذه الخطوة ودراستها وطرحها أمام الرأي العام للتداول مسبقاً.
الأهم من هذا وذاك، فإنّ ما يحتاجه المطبخ الاقتصادي قدراً كبيراً من الشفافية، ما يزيل القلق لدى المواطنين إزاء المال العام وموارد الدولة، وتقوية آليات مكافحة الفساد وكشفه، من خلال المؤسسات الرسمية أو حتى الإعلامية والمدنية، مع التذكير أنّ الحكومة بدأت بتسديد ما كفلته من قرض موارد هذا العام.
التفكير الحكومي اليوم ما يزال أسير إيجاد "حلول مالية" لعجز الموازنة والمديونية، ومن الواضح أنّ مساحة "المناورة الحكومية" ما تزال محدودة إلى الآن، نتيجة الأوضاع الاجتماعية التي لا تسمح بأكثر من العبء الكبير الحالي على كاهل المواطن.
في المقابل، ما لا يأخذ قسطاً وافراً من التفكير الحكومي هو بناء رؤية استراتيجية لـ"حلول اقتصادية" تحرك عجلة الاقتصاد، نحو خلق فرص عمل وإحداث قفزات اقتصادية حقيقية.
إلى حين ذلك، فإنّ أي أعباء مالية إضافية على المواطن هذا العام نتيجة تغيير سياسات الدعم ستؤدي إلى تداعيات اجتماعية وسياسية أكبر.(الغد)