يا قتيبة..
من أقصى حدود التشاؤم والشعور بالقلق وعدم الأمان، انتقلت مشاعر شريحة اجتماعية واسعة من الأردنيين، خلال أسابيع قليلة، إلى سقوف عالية من التفاؤل والثقة بالنفس، ومن أفق مغلق تماماً اقتصادياً وسياسياً إلى انفراجات متتالية على أكثر من صعيد.
لم يقف الأمر عند نجاح الشارع في إسقاط الحكومة السابقة ورسم لوحة فنية سياسية تاريخية، ولا بقدوم شخصية إصلاحية ديمقراطية، من خارج العلبة وبعيداً عن سياقات النخب التقليدية، بل تعدّى ذلك إلى برنامج عمل مختلف تماماً للمرحلة المقبلة، مدشّناً بكتاب تكليف ملكي يتحدث عن "عقد اجتماعي" جديد، كان الحديث عنه بمثابة "محرّمات" من قبل التيار المحافظ سابقاً، ثم إقرار صندوق النقد الدولي المراجعة الثانية the Second Review، ولاحقاً اجتماع مكّة أمس لمساعدة الأردن من قبل الأشقاء الخليجيين.
ذلك كلّه مهم، لكن الأهم في كل ما حصل، وهو منبع التحول العميق في المزاج الشعبي الأردني، هي المسيرات والمظاهرات والاحتجاجات التي أعادت إنتاج المفهوم الوطني بعدما كان في مرحلة التآكل، بل نقلت "الوطنية الأردنية" إلى مرحلة جديدة متأسسة على ثقافة الطبقة الوسطى وقيمها المعتدلة، تلك الطبقة التي تحرّكت بصورة فاعلة وشبكية، وأعلنت عن وجودها سياسياً وثقافياً واقتصادياً، خلال الأيام الماضية، وهذا إنجاز وطني مهم.
قبل حركة الاحتجاجات الشعبية -التي كانت قاطرتها الرئيسة مكونة من الطبقة الوسطى والشباب الأردني المعولم، قبل أن تتسع الدائرة وتستقطب شرائح عريضة أخرى- كنّا غارقين في حالة من السوداوية والشك ليس فقط بسبب الظروف المالية والاقتصادية الخانقة، بل حتى اضمحلال أفق الإصلاح، وانتشار الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، والتنمّر على القانون والشك الكبير في قيم المواطنة والأمن الاجتماعي.
تلك الحالة الكارثية انعكست من خلال رسالة قتيبة، وهو نموذج للشباب الأردني إلى الرئيس المكلف، د. عمر الرزاز، التي بالرغم من أنّها جاءت على صيغة سؤال مختصر مكثّف، فإنّها خبّأت فيه حجم المرارة والقلق "ممكن تصير الأردن زي ما بدنا بالقريب؟ يعني في احتمال نشيل الهجرة من راسنا ونصير نحب العيشة بالبلد؟! جاوبني بصراحة وتجاملنيش!".
هذا هو جوهر الرسالة التي من المفترض أن تلتقطها النخب التي أوصلت الشعب إلى هذه المرحلة القاسية، بأن تصبح الهجرة هي الحلم الوحيد. بينما الحلم الأردني كان يتبدد، نتيجة تراكم الأخطاء والسلبيات والظروف الطاردة للشباب.
المعادلة انقلبت وحالة التفاؤل أصبحت جلية، لكن المسألة ليست مرتبطة لا بشخص الرئيس ولا بقرار من مجلس الوزراء، بل بعملية مستمرة وقرار من الدولة ومن النخب الرسمية التي من المفترض أنّها تعلّمت الدرس جيّداً، مما حصل، وأدركت بأنّ هنالك تحولات اجتماعية وثقافية من المفترض أن تؤخذ بعين الاعتبار في صوغ السياسات الوطنية، وأنّ الشارع الذي طالما كان محلاً للاستهتار والتجاهل هو شارع حيّ وإيجابي وحضاري، وأنّ الظواهر السلبية القاتلة التي عانينا منها خلال الأعوام الماضية ليست نتاج المجتمع، بل السياسات الرسمية بدرجة رئيسة.
هنالك بطبيعة الحال خشية من سقف التوقعات المرتفع، لكن من يعرف الرئيس الجديد يدرك بأنّه إذا أخذ فرصته كاملة وأتيحت له مساحة حقيقية للعمل، فمن الممكن أن يخلق أجواءً إيجابية، وأن يحقق إنجازات ملموسة، وهنالك طبقة عريضة واسعة من المجتمع متحفّزة للإصلاح المطلوب.
الغد - الاثنين 11/6/2018