لا حرب ولا مصالحة ... «التهدئة أولاً... وربما أخيراً»
خلف دخان الحرب التي تشتعل بين حماس وإسرائيل في الإعلام، تشهد القنوات الديبلوماسية الخلفية، حراكاً كثيفاً من أجل صياغة معادلة «التهدئة مقابل رفع الحصار» ... الوسيط المصري كثّف جهوده لدرء الانفجار ومنع الانزلاق إلى قعر الهاوية ... والمموّل القطري أظهر سخاءً في تأمين مستحقات «التهدئة» ومقتضياتها.
إسرائيل تسعى في تحسين شروط الصفقة المنتظرة ما أمكن، ومن مقتضيات ذلك رفع وتيرة التهديد بحرب لا تُبقي ولا تذر، تشتمل على توجيه ربات «مؤلمة جداً» لحماس ... في المقابل، لا تترك حماس «جمعةً» تمر، من دون أن ترفع وتيرة الاشتباك عند السلك الشائك، متهددة بترك غزة تنفجر، في وجه إسرائيل، وبدرجة أقل في وجهة مصر، كونها الدولة العربية الوحيدة التي تحتفظ بحدود مع القطاع المحاصر.
كلا الطرفين لا يريدان حرباً شاملة... المستوى الأمني والعسكري في إسرائيل كان شديد الوضوح في هذا الصدد، أما المستوى السياسي فيكتفي بإطلاق العنان لتهديداته، وغالباً لاعتبارات السياسة المحلية، ومن ضمن أسلوب المزايدات والمناقصات في الوسط الحزبي الإسرائيلي ... في المقابل، لخص القائد الحمساوي يحي السنوار موقف الحركة بدقة في حديثه إلى صحيفة «لا ريببليكا» قبل أسبوعين، عندما قال إنه لا يريد الحرب ولا يسعى إليها، ولكنه سيقاتل إن فرضت عليه.
نحن إذن، إمام تصعيد مضبوط، ومنضبط بالرغبة في تفادي المواجهة الأشمل، وترك حيز من الوقت وفسحة من الفرص، أمام الديبلوماسية التي تنخرط فيها بنشاط، الأمم المتحدة ومصر وقطر، وتدعمها تركيا عن بعد، رغم انشغالات الأخيرة، بملفات وهموم كبيرة ومتشعبه ومتعددة الجبهات.
السلطة التي بدا لبعض الوقت أنها استعادت زمام المبادرة، عندما نجحت في «تقديم ملف المصالحة على ملف التهدئة» في حركة وحراك الوسيطين المصري والدولي، يبدو أنها تواجه مخاطر الانتكاس من جديد، وتقامر بتهميش دورها في ملفات غزة المشتعلة ... نجاحات السلطة التكتيكية، لم تكن متبوعة بمبادرات وبدائل، يمكن العمل عليها، وحشد التأييد لها ... ظلت جهودها ومواقفها تراوح ما بين تهديد حماس والتلويح بإجراءات عقابية جديدة ضد غزة ... سلبية السلطة، تخرج الوسطاء عن أطوارهم، وتدفعهم للتعامل مع «الأمر الواقع» بالسلطة ومن دونها في نهاية المطاف.
لقد نجحت إسرائيل في إقناع بعض الأوساط الإقليمية والدولية، بأن السلطة تدفع باتجاه تفجير الوضع في غزة بين حماس وإسرائيل، وأن بعض أوساطها يريد الانتهاء من حكم حماس لغزة من دون أن يبدو متورطاً بالشراكة في هذه الحرب، أو بالعودة لحكم القطاع على ظهر دبابة إسرائيلية ... ولقد وفر استنكاف السلطة عن التقدم بأي مبادرات من خارج الصندوق، وقابلة للنجاح، والاكتفاء بترديد القول: كل شيء أو لا شيء، إلى تقدم خيار التهدئة في السباق مع خيار المصالحة، وربما على حسابه، بل والمؤكد أنه سيكون على حسابه.
وزاد الطين بلة، أن السلطة تكاد تفقد ورقتها الوحيدة في التعامل مع حماس والقطاع: المال، فإسرائيل عادت للقول بأنها ستقتطع من أموال الضرائب الفلسطينية، كافة المبالغ التي سيقتطعها الرئيس عباس من «حصة غزة»، فيما هرعت قطر لفتح صناديقها لتمويل القطاع بالوقود، بل وإبداء الاستعداد لتمويل «رواتب الموظفين»، إن توفرت لذلك آلية مقبولة دولياً، حتى لا تقع الدوحة في الحرج من جديد، وهي التي بذلت جهداً مضنياً من أجل درء تهمة دعم الإرهاب إثر اندلاع الأزمة الخليجية.
إن قُدّر لمسار التهدئة أن يسبق مسار التصعيد أو يقطع الطريق على سيناريو الحرب الشاملة، فإن حماس ستخرج «مرتاحة» من هذه الأزمة، ولا أقول منتصرة، لأن المنتصر الوحيد فيها هو إسرائيل، التي عملت وتعمل بدأب من أجل تقطيع أوصال «الإقليم الفلسطيني» وتحويل الانقسام المؤقت إلى انفصال دائم ... أما المهزوم في هذه المعركة، وبرغم البطولة والتضحية التي ميّزت أداء الفلسطينيين في مسيرات العودة الكبرى، فهو الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ومشروعه الوطني.
أما الغزيين الذين اكتووا بنار الحصار والعقوبات وحروب الأخوة الأعداء وحروب الإسرائيليين عليهم، فقد يفرحون لبعض الوقت برفع الكثير من الإجراءات الجائرة المضروبة حولهم ... لكن فرحتهم لن تدوم طويلاً، عندما تبدأ تباشير «إمارة غزة» تلوح في فضاء الحلول المطروحة لقضيتهم الوطنية ... وكلي ثقة، بأن الغزيين لن يترددوا في العودة الفورية إلى خطوط المواجهة وساحات الاشتباك، كما كان دأبهم دوماً.
الدستور - الثلاثاء 16-10-2018