أفضل هدية من حكومة الرزاز
قال لي احد الشباب في قرية نائية بالجنوب : «الفساد بخير» لا يستطيع احد ان يعكر صفوه ولا ان يقض مضجعه، وحين سألته مازحا : وهل كان الفساد يعاني من وعكة صحية؟ قال لي: ربما ولكنه تعافى وربما امتص من دمنا ما يحب ليستكمل عافيته خارج الوطن...
فهمت بالطبع اشارة الشاب كما فهمت احساسه بالقهر من ترددنا وتباطؤنا في فتح ملفات الفساد، قلت: هل يعقل ان تمضي كل هذه السنوات دون ان نفلح في القبض على عشرة فاسدين كبار لندفعهم الى القفص ونطمئن الناس بأننا جادون حقا في مواجهة الفساد الذي اصحبت رائحته تزكم الانوف.
قلت ايضا: هل عجزت اجهزتنا المشهود لها بالكفاءة في معرفة كل شيء ان تقبض على هؤلاء الحيتان الذين نهبوا اموالنا وسمموا حياتنا واحتشدوا لمواجهة اي صوت يدعو الى الاصلاح لان هذا الصوت وان كان خافتا سيكشف للناس ما ارتكبوه من اخطاء بحق البلد ومستقبله.
لا شيء يبعث على الخيبة اكثر من اهمال هذا الملف، او من الاستهانة بأصوات الناس التي بُحّت وهي تطالب بفتحه، ولا شيء يدفع المواطن الاردني الى اليأس من الاصلاح والشك في كل وعوده اكثر من المماطلة في تقديم « الحيتان» الى العدالة.. واشهار قضاياهم امام الرأي العام.
لماذا نتباطأ في مواجهة الفساد ومحاكمة رموزه ؟ بعضهم يرى ان الفساد في بلادنا من فصيلة النوع «الانطباعي» لا الحقيقي او انه «وهم « متخيل في اذهان الناس لا «طبع» استشرى في الافراد والمؤسسات، اخرون يرون ان وراء التأخير والمماطلة اسرارا يخشى من كشفها ومخاوفها تؤثر على سمعة البلد في الخارج.
في المقابل، يعتقد الناس ان كل هذه المبررات غير صحيحة وان التغطية على الفساد لا يفهم منها الا حقيقة واحدة وهي ان ارادة الاصلاح ما تزال غير موجودة ولو توفرت حقا لتركنا للقضاء النظر في قضايا الفساد والبت فيها بعيدا عن هذا النقاش الطويل الذي لم يثمر ولنا –بالطبع- تجربة في ذلك .
هل ستنجح الدولة في معركتها ضد الفاسدين، وهل سيقتنع الاردنيون بأن ساعة «التطهير» دقت فعلاً وبأن عقاربها ستدور بلا تلكؤ وبلا استثناءات؟ حتى الآن ما زلنا نقف على عتبة «الدار» بانتظار الدخول الى الغرف «المغلقة» التي خرجت منها روائح الفساد، وما زلنا نقف على منصة «الشارع» لمعرفة من يقف على الدور ومن هو التالي: بالاسماء وليس بمجرد الاشارات، وما زلنا للاسف امام جرأة غير طبيعية يمارسها بعض «المطلوبين» في الذين استمرأوا الفساد ولم يتوقفوا عنه بعد.
مقابل التردد الرسمي في التعامل مع الفاسدين بجدية ثمة تصاعد واضح في الشارع تجاه الاسراع في فتح ملفات وثمة غضب من المماطلة في ذلك واكاد اجزم بان كل حديث سياسي بين اردنيين لا يخلو من قصص عن الفساد لدرجة ان احدنا اصبح يظن ان معظم المسؤولين فاسدون وقد يكون هذا غير صحيح بالمطلق لكنه مؤشر على ان الشعب اصبح يعتبر الفساد عدوّه الاول وعلى ان المرور الى الاصلاح لن يكون مقنعا اذا لم يتوقف امام محطة الفساد ويخرج منها منتصرا وهذا ما يفترض ان نفكر به جديا قبل ان يفقد الناس ثقتهم بما يقدم لهم من وعود.
اكيد، لن تتردد «ميليشيات» الفساد عن استخدام كل ما تملكه من اسلحة وربما «متفجرات» سياسية واجتماعية واقتصادية للدفاع عن نفسها، وضمان «استثنائها» من الوقوف امام العدالة، لكن من واجب الدولة ان تواجه كل ذلك بجرأة وحزم وشجاعة، اذا ارادت حقاً ان تستعيد هيبتها، وان تستجيب لمطالب الناس واشواقهم، وان تطوي صفحة «سوداء» من تاريخنا.
افضل هدية يمكن ان تققدمها حكومة الرزاز للاردنيين هي رؤية رؤوس فساد كبيرة تقف وراء قضبان محكمة.. فهل تفعلها؟ نتمنى ذلك.
الدستور - الاثنين 22-10-2018