هذا أخطر ما يمكن أن ننتظره
ما الذي حدث في بلادنا حتى انتهى الناس الى هذه الحالة من اليأس الاحباط؟ ما الذي اصاب مجتمعنا حتى تراجعت فيه قيم التعاون والتكافل والشعور بالرضا والقناعة؟ لماذا تحولت «المدن» الى «غول» يفتح فمه ليبتلع كل شيء ولا يشبع؟ ولماذا اصبحت البلدات والقرى والاسواق «اعجاز نخل خاوية»؟ لماذا اجتاحتنا عواصف الفقر والقهر والاحساس بالحيرة والخوف وفقدنا الهمّة ومات داخلنا الامل؟
تسأل اي مواطن عما يفكر به ويتمناه فيجيبك على الفور: اريد ان اعيش.. الحياة اصبحت صعبة للغاية، اركض منذ الصباح وحتى المساء من اجل تحسين الاحوال ولا شيء يتغير، المصاريف زادت والاسعار ارتفعت والدخول تآكلت، «والبركة» قلّت.
بمقدور احدنا ان يقرأ وجوه الناس او ان يتسلل الى داخلهم، وسيكتشف بلا شك ان «جبلاً» من الهموم يجثم فوق صدورهم، وان اعباء الحياة التي يتحملونها تجاوزت قدرتهم على المزيد من الاحتمال، وان «صبرهم» فعلا نفد، وحين تسألهم: ما الذي حدث؟ تسمع اجابات مختلفة لكنها تصب في دائرة الضيق من الحاضر والخوف من المستقبل، وحين تقول لهم ان الناس في بلدنا «تآخوا» مع الظروف القاسية ومع الفقر، يوافقون على ذلك، ولكنهم يستدركون: كنا في ما مضى نشعر بالرضى ونعلّق على الامل بالفرج. فالظروف يمكن ان تتحسن، والقناعة مطلوبة، لكننا الان على وشك ان نفقد الامل.
الازمة الحقيقية التي نعاني منها ازمة اقتصادية بامتياز «دعك من السياسات التي انتجتها»، والحراكات الاجتماعية التي نتابع احتجاجاتها في شوارعنا والاخرى التي تحولت الى «ماراثونات» بالزحف على الاقدام من الاطراف الى العاصمة، لم تحركها –فقط- دوافع البحث عن الكرامة والحرية والمشاركة السياسية فقط، وانما حركها الفقر الذي ارتبط بالفساد، والبطالة التي ارتبطت بسوء التخطيط وغياب العدالة.
من واجبنا هنا ان نفهم هذه المعادلة، فالاردني الذي كان قبل عقود راضيا ومقتنعا في ظل حكومات ترعاه وتحميه وتوفر له الحد الادنى من العيش الكريم صحا على واقع مختلف تحول فيه المجتمع الى طبقتين احداهما استأثرت بكل شيء، واثرت ثراء فاحشا بطرق غير مشروعة، والاخرى –وهي الاكثرية- وجدت نفسها عاجزة عن الاستمرار في توفير الحياة المناسبة لها، ومحرومة من «خيرات» البلد ومقدراته ولم يعد ثمة «طبقة» وسطى، بعد ان تجمدت دخولها وفرصها، وازاحها الغلاء وزيادة تكاليف المعيشة الى مستوى «الفقر» او ما دونه احيانا.
حين ادقق في صورة مجتمعنا فان اخشى ما اخشاه ان نصل الى «حالة» احتقان شعبي بسبب هذه الازمة المالية والاقتصادية التي لم نفلح بعد في حلها ولا يوجد لدينا كثير من الخيارات للتعامل معها، واذا كان لدى الناس في بلدنا رغبة او استعدادٌ ما لانتظار «نتائج» الاصلاح السياسي فانهم –بالتأكيد- لا يستطيعون ان يصبروا ويتحملوا قساوة الحاجة والعوز، وخاصة اذا ما ارتبطت بحاجات اطفالهم واسرهم والتزاماتهم الضرورية، فمن يستطيع ان يقول لأطفاله: لا يوجد لدي ما ادفعه لشراء حليب لكم أو لتسديد اقساط مدارسكم او دفع ما تراكم من فواتير وقروض.
لا اريد ان ادخل في تفاصيل «خريطة» الفقر في بلادنا، والايام القادمة التي ستفرز اعدادا واجيالا من الفقراء، لكن ما اريد ان اقوله -هنا- هو ان دفع الناس الى فقدان الامل بتحسين معيشتهم وظروفهم سيقودهم الى نفاد الصبر.. وهذا اخطر ما يمكن ان ننتظره.
المشكلة -ايضا- في الوجه الاخر لعملة «الاسوأ» وهو عجز المسؤول عن تقديم اجابات واضحة عن اسئلة الناس ويأسهم واحباطهم، او بدائل حقيقية تخفف عنهم هذه الضغوط الاقتصادية، او تفتح امامهم «الابواب» السياسية المسدودة.
لا اتحدث هنا عن «النوايا» فاغلب المسؤولين نواياهم طيبة، واغلب النخب كذلك، لكن ما الفائدة اذا كانت آليات العمل معطلة، والاحساس بالعجز عن تقديم الحلول او المخارج هو «الرد» الذي تسمعه مع كل «ازمة».
الدستور - الاربعاء 27-2-2019