وداعاً أبا سليمان
أمت جموع الاردنيين مدينة السلط حاضرة البلقاء، يشيعون أخا عزيزا، وقائدا حكيما، ومفكرا ملهما، ذلكم هو الدكتور عبداللطيف عربيات.
كما رحلت قلوب الكثيرين في فلسطين ومصر والشام والعراق والمغرب العربي والمشرق الاسلامي الى جبال البلقاء تودع رجلا عاش لأمته، وتفانى في خدمتها، ونصرة قضاياها.
وكم هو ثقيل على النفس أن ننعى أخانا أبا سليمان وهو الذي سكن القلوب، إذ يصدق فيه القول أنه جامع القلوب، فقد رأيت ومنذ أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها تطلب الراحة اذ لا راحة لمؤمن دون الجنة، رأيت إخوانه قادة وأفرادا يبكونه ودموع الكبار عزيزة وعصية، لكن حين يفقدون عزيزا بوزن أبي سليمان فلا يملكون إخفاء الدموع، وحبس العبرات، فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا على فراق أبي سليمان لمحزونون. فكل من عرف أبا سليمان أحبه، وكلما اقترب منه زاد تعلقا به، واحساسا بفقده، فقد تآخت على الحق أروحنا في دعوة الاخوان المسلمين، التي كانت الرد الطبيعي على تقسيم البلاد، وسيطرة الاستعمار على أرضنا وقرارنا ومقدراتنا.
هذه الدعوة التي هي أمل الأمة اليوم في استئناف الحياة الاسلامية واستعادتها دورها الحضاري.
والتقينا في وزراة التربية والتعليم يوم كان قائدا للمسيرة من موقع الأمين العام لوزارة التربية والتعليم، وكان صاحب مشروع إصلاحي تنويري يوازن بين الثوابت الايمانية ومنجزات العصر، ايمانا منه بأن الاصلاح يبدأ من هنا، من المعلم والمنهاج والفلسفة التربوية.
- والتقينا في ميدان السياسة بعد الانفراج الذي شهده بلدنا عام 89 حيث جاء المجلس النيابي الحادي عشر الذي التقت فيه ارادة المجلس الأصدق تمثيلا للشعب الاردني العزيز على انتخابه ولثلاث دورات متتالية رئيسا لمجلس النواب شمخ خلالها المجلس، وحظي بثقة الشعب الاردني، وضاق به ذرعا حكومات في دول الجوار، وسعت جاهدة لإجهاض المسيرة الديمقراطية التي كشفت فسادهم واستبدادهم.
- والتقينا على تأسيس حزب جبهة العمل الإسلامي حيث قدمه اخوانه أمينا عاما للحزب، ورئيسا لمجلس شوراه، فقاده بحكمة واقتدار.
- والتقينا في العمل الخيري التطوعي عبر عدد من الجمعيات الخيرية والثقافية، ايمانا منه بأن عمل الخير عبادة من أجل العبادات، وصدق الله العظيم القائل: (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون).
- وكان الجامع بين هذه الميادين الرؤية الثاقبة، والحكمة البالغة، فكان بحق حكيم الحركة الاسلامية فقد كان يؤمن أننا في في هذا الوطن اخوة، وشركاء، وفي مركب واحد، وأن التباينات الفكرية والسياسية بين الاردنيين من مقتضيات التعددية التي تثري وتغني ولا تفرق أو تبعثر الجهود، فالتقى عليه كل مكونات الوطن.
- لقد كان أبو سليمان من القلائل جدا الذين جمعوا بين حب الشعب الاردني بمدنه وقراه ومخيماته وبواديه وبين الاحترام الرسمي، لأنه كان ينطلق من المبادئ الايمانية والثوابت الوطنية، والمصالح العليا للوطن، فكان المستشار المؤتمن، والناصح الأمين، فكثيرا ما كان يفزع اليه اخوانه في قيادة الجماعة اذا حزبهم أمر، فيجدون لديه الرأي الحصيف، والحل الناجع.
وإن أنسى فلن أنسى يوم دعاه الملك الراحل رحمه الله معاتبا على بعض عبارات نسبت الى بعض الخطباء، فكان جوابه مقترنا بابتسامة عذبة: كم نسبة هؤلاء الى مجموع الحركة الاسلامية 1%،2%،5%؟ هذه نسبة ضئيلة يغض الطرف عنها بالقياس الى الأغلبية الساحقة من رجالات الحركة الاسلامية، فيطوى الملف الذي كان يسعى من ورائه كتبة التقارير الى افساد العلاقة بين الحركة الاسلامية ورأس النظام.
كما لا أنسى يوم قدم وزير الخارجية الامريكي يحمل في جعبته حزمة من المطالب يمارس من خلالها الضغوط على الدولة الاردنية، فدعاه ملك البلاد للتشاور فقال له: بسيطة، فالجواب أننا بلد ديمقراطي، ونحن نقبل ما يقرره الشعب، فعاد الى مجلس النواب فأوعز بإصدار بيان يعبر عن إباء الاردنيين وكبريائهم فأسقط في يد المبعوث الأمريكي.
ولعل أكثر ما أحزن أخانا الحبيب أبا سليمان وأقضّ مضجعه الخلافات التي شهدتها الحركة الاسلامية، والتي أدت الى خروج عدد من اخواننا الذين تحب ونحب من عضوية الجماعة، وأنا على يقين أن الوفاء لأبي سليمان أن يراجع كل منا مواقفه، وأن يستحضر مسؤوليته ازاء هذه الدعوة المباركة ليلتئم الصف، ويقوى العود، ويقوى الوطن بقوة مكوناته.
وقد كانت القضية الفلسطينية هما ناصبا لديه، ايمانا منه بأنها القضية المركزية للأمة، وأن الدفاع عن فلسطين دفاع عن الامة، فلم يبخل يوما في الدعوة الى جمع كلمة الفلسطينيين على الثوابت الوطنية ودعوة الاردنيين والعرب الى النهوض بمسؤولياتهم ازاء أقدس قضية، القدس وفلسطين.
لقد عاش لأمته، وحمل قضاياها الى كل المحافل، فكان فلسطينيا مع الفلسطينين، وعراقيا مع العراقيين، ومصريا مع المصريين، وسودانيا مع السودانيين. وهكذا ازاء كل قضية عربية واسلامية، انطلاقا من قول الله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».
ولئن رحل أبو سليمان عن دنيانا قبل أن يحقق أمانيه بتحرير فلسطين والأرض العربية، وقبل أن تتوحد الأمة، وتستعيد مجدها التليد، ودورها الذي وعد به الله عزوجل: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصلحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا).
وبشّر به رسول صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار»، وقوله: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فتقتلوهم»، فإن من خلف أبي سليمان رجالا أوفياء، ثابتين على العهد، وشعبا يعده الله عزوجل للنصر والتحرير، (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)
فطب نفسا، وقر عينا يا أبا سليمان في رحمة الله ورضوانه وإنا لله وإنا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
ولعل من ألطاف الله عليك أن توفاك ثابتا على العهد، في بيت من بيوت، وفي يوم الجمعة سيد الايام، وفي صلاة الجمعة، سائلا المولى عزوجل أن يجعل كل ذلك في ميزان حسناتك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السبيل - الثلاثاء 30-4-2019