شعب بلا عمال!!
المعنى الحقيقي والمتعارف عليه لمصطلح «عامل» يكاد ينقرض من الأردن، ومن دول عربية أخرى، فلا تكاد تجد عاملا أردنيا في مجالات البناء والحفريات ونقل البضائع ولا في أعمال الزراعة والفلاحة، ولا في أعمال الحراسة والحدائق والمشاتل، ولا في المحلات التجارية ومحطات الوقود ولا في خدمة البيوت، فنحن بلد يقدر عدد سكانه بـ (7.5) مليون نسمة، يحوي (2) مليون عامل وافد وزيادة، وهذه الصورة لم تكن كذلك قبل عقود من الزمن، فكان الأردنيون يشتغل بعضهم عند بعض في أعمال الحراثة والحصاد، وأعمال الحقول، وفي مجالات البناء والخدمة، فما زلت أذكر ذلك بنفسي من كان يقوم بذلك، ولم يكن يشكل ذلك منقصة أو حطًّا من الكرامة ولم يكن أحد يشعر بالعيب من الشغل عند عمه وابن خاله وابن عشيرته.
لقد أصبح لدينا ثقافة جديدة وغريبة، فهي ليست موجودة في مصر أو سوريا أو العراق أو السودان أو المغرب أو مورتانيا ولا في بريطانيا وفرنسا وأمريكا واليابان كذلك، فرغم الفقر الشديد والمدقع لدينا لا يقدم الشاب الأردني على حمل الفأس، أو حمل الاسمنت، أو عتالة الأدوات، أو الذهاب إلى المزرعة، ولا يمكن أن تقدم النساء على القيام بالخدمة في بيوت الأردنيين أو رعاية المسنّات، مع أنك تجد طالب جامعة في أمريكا يعمل بالعناية بالصغار، أو جلي الصحون في المطاعم، أو عاملا في محطة وقود، وتجد فرنسيين من أصل فرنسي يعمل في السباكة وغسيل السيارات وتصليح المغاسل وتسليك البواليع، وتجد مصريات يعملن في خدمة بيوت مصريين أو حراس على أبواب العمارات والمنازل.
لماذا نحن أصبحنا هكذا؟ ولماذا انتقلنا جميعاً دفعة واحدة إلى هذا التقليد المليء بالكبر والبشاعة أو ما يسمى (العائل المستكبر)؟ ولماذا يرى الأردني نفسه أنه أفضل من المصري أو السوداني أو اليمني؟ ولماذا يقبل الشاب الأردني الذي وصل عمره إلى (25) سنة وهو بلا عمل، ولا يستحي من طلب مصروفه من والده أو طلب قيمة (باكيت الدخان) وينام (20) ساعة في اليوم.
هناك خلل كبير في منظومة القيم الثقافية التي تسللت إلى حياتنا في العقود الأخيرة، وهناك خلل أكبر في الاستراتيجيات الكبرى وفي السياسات العامة وفي منظومة التعليم الشامل، ونحن جميعاً بلا استثناء نتحمل المسؤولية المشتركة عن شيوع هذه الثقافة المختلة، وترسيخ هذه المعايير الخاطئة.
يبدو أن الخلل كان أولاً في التعليم، وفي التعليم العالي على وجه الخصوص، حيث ينبغي أن تكون المسألة خاضعة لرؤية استراتيجية بعيدة المدى، تحدد النسب المعقولة لكل تخصص وتحدد الحاجات، وتربط مخرجات التعليم بحاجات سوق العمل، فمثلاً السماح بإعادة التوجيهي عدة مرات بلا سقف حتى لو كان ليس له علاقة بالعلم والأكاديميا لا من قريب ولا من بعيد، جعل التعليم الجامعي لدينا عبئاً كبيراً على الدولة والمجتمع، ويشكل أكبر رافد للبطالة، لأن من يحمل شهادة جامعية لن يقدم على حمل الفأس أو الطورية أو سطل الاسمنت..!! وسوف يبقى ينتظر فرصة العمل بعيدة المنال، لقد نقلنا كل السكان من المزارع والحقول وميادين العمل المنتج إلى الجامعات والوظائف والجلوس خلف المكاتب، وتعطلت المسارات المهنية، وتعطلت المزارع وتوقفت عربة الانتاج وأصبحنا جميعاً أسياداً نحتاج إلى من يطعمنا ويسقينا ويخدمنا، وينتج لنا الخضار والقمح والفواكه والألبان والجبن، ونحن تحولنا بمجملنا الى قطيع من المستهلكين نمارس الفلسفة والتنظير والسخرية والنقد الجارح، والعمّال الوافدون يحولون ما قيمته خمسة مليارات دولار إلى الخارج من جيوبنا المثقوبة.
الدستور - الخميس 2 أيار / مايو 2019.