هل يُفسد الرأي العام؟
یقال الیوم في الغرب إن الرأي العام ھو ثاني قوة في العالم بعد الولایات المتحدة تندرا بالسیاسة الخارجیة للولایات المتحدة التي طالما عاندت الرأي العام مثلما حدث في حرب احتلال العراق ، ویقال في الدیمقراطیات الناضجة إن الرأي العام أقوى من الحكومات فھو مرجعیة ملزمة للسلطات والقادة والنخب وھو الحكم النھائي الذي یلجأ إلیھ المجتمع حینما تتصادم الرؤى وتتباین المواقف والآراء، ولكي یعبر الرأي العام عن الصالح العام لا بد أن ینمو في بیئة صحیة وأن یترك لكافة الأطراف التي تدعي تعریف الصالح العام فرصا متكافئة للتعبیر والتأثیر فیھ . ویصنف الأكادیمیون الرأي العام إلى رأي قائد وآخر منقاد ورأي عام راشد ورأي عام مضلل ورأي عام معلن وظاھر وآخر مستتر وباطن ویرتبط تحقق أي من تلك الثنائیة بمستویات التطور الاجتماعي والسیاسي السائد؛ أي وعي المجتمع لذاتھ وقدرتھ على إنتاج تاریخھ بأدواتھ الذاتیة ، ولا یمكن لأي سلطة سیاسیة في العالم أن تحتكر الرأي العام على المدى الطویل، ولا یمكن لفئة أو نخبة أو حزب أن یدعي تمثیلھ للرأي العام على طول المدى أیضا ؛ فتراكم وعي الناس وصیاغة الاتجاھات عملیة معقدة تتداخل فیھا قوى وأدوات وعناصر متناقضة وعدیدة وبالتحدید في مراحل التحول وما یرتبط بھا من تغیرات اجتماعیة وثقافیة إلى إن تصل المجتمعات إلى مستوى من استقرار القیم العامة التي تنظم الحیاة السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة. وفي مراحل التحول السیاسي والاجتماعي وما یلازمھا من تحولات ثقافیة كما تشھده بلادنا ھذه الأیام تزداد عوامل إرباك الرأي العام ومحاولة اصطیاده وتجییره ھنا وھناك ، وأحیانا تضلیلھ واقتیاده لحساب مراكز قوى وأطراف في الدولة أو المجتمع أو السوق أو لأطراف خارجیة، وتصبح ھذه القوة المجتمعیة الھائلة قناعا یختفي خلفھ الانحراف والفساد، في ھذه المرحلة یتصف الرأي العام بالھلامیة وعدم الوضوح ،بل وعدم القدرة على التشكل لافتقاده الاتفاق على المنطلقات والقیم الأساسیة. ومن ھذه الزاویة یسھل تحریكھ أو التلاعب بخلایاه العصبیة ، كما یتصف أحیانا بالعصبیة وردود الفعل الحادة السریعة والنزقة والتي عادة لا تخدم وطنا ول
قضیة. في مراحل التحول تنمو ثقافة مقاومة للتغیر وثقافة تتستر على الفساد أو تخترع الفساد احیانا وھنا خطورة إفساد الرأي العام، حیث یزداد عنفوان لعبة تقاسم الأدوار والبحث عن المصالح والمكاسب وشراء الذمم وتضخیم الذات، وتصبح الارادة العامة جزءاً من الدیكور الوطني للحكومة فلا بد من مسحة الرأي العام لتزیین أعمالھا وأصباغ مبادراتھا وأفعالھا بمباركتھ ورضوانھ، ویصبح الرأي العام عصا موسى السحریة بید المعارضة والنخب المتقاعدة تتكئ علیھا كلما انحنى ظھرھا وتلوح بھا مھددة متوعدة كلما ازداد ذلك الظھر قوة . لا یكتفى باستخدام الرأي العام أداة لإضفاء الشرعیة أو لنزعھا في الحیاة العامة بل یتم تحمیلھ مسؤولیة الفساد وخراب الضمائر العامة، فالشركات الوطنیة تخسر وتفلس بسبب ضغوط والتزامات مجتمعیة، والبطالة تنتشر وتعم لأن الناس لا یریدون أن یعملوا ، والناس یموتون على الطرقات بسبب عدم التزامھم بالقوانین، ولم یسأل أحد عن دور الطرق على سبیل المثال أو عن مدى فاعلیة تطبیق القوانین، وطلبة الجامعات یمارسون طقسا سنویا من الغزوات والاقتتال بسبب جھلھم. یفسد الرأي العام بمصادرة وعي الناس حینما یتحول قادة الرأي في المجتمع إلى أدوات لتسویغ وتبریر الفساد جریا وراء مصالح صغیرة تلقیھا لھم مراكز القوى في الطرقات ، ویفسد الرأي العام أیضا حینما یقوم قادة الرأي باختراع الفساد وحینما یرفضون رؤیة أي إنجاز لا فرق بین الحالتین .
الغد - السبت 11-5-2019