بيان كرايست تشيرتش خطوة أولى باتجاه قيم إنسانية معولمة
يعتبر بيان كرايست تشيرتش الذي وقعته الدول السبع الكبرى، باستثناء الولايات المتحدة التي تحفظت لأسبابها الخاصة، تحالفا غير مسبوق بين الحكومات وكبار شركات الإنترنت مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت وتويتر وغيرها، وهو بمثابة خطوة متقدمة إلى الأمام، في مواجهة الإرهاب والتطرف العنفي عبر الإنترنت.
هو بيان يمثل خارطة طريق تنفيذية تتضمن التزام الحكومات بمواجهة مسببات الإرهاب والتطرف العنفي عبر تطبيق القوانين ذات الصلة، ووضع معايير أخلاقية للنشاط الإعلامي الأثيري، وإتباع سياسات الإدماج Inclusion والتماسك أو الصلابة Resilience المجتمعيين، واعتماد برامج تعليم وتثقيف وتوعية وبناء مهارات لتمكين المجتمعات من مواجهة أيديولوجيات الإرهاب والتطرف العنفي ومظاهر اللامساواة، واتخاذ إجراءات وضوابط تبقي النشاط الإعلامي في مجال الإنترنت منسجما مع قانون حقوق الإنسان الدولي.
وقد أكد البيان على أهمية دور المجتمع المدني، حيث تعهدت الحكومات الموقعة بالعمل مع المجتمع المدني لتعميم جهود الجماعات المتصدية لمواجهة التطرف بكل أشكاله، بما فيه تعميم خيارات إيجابية ورسائل مضادة للإرهاب والتطرف، وتحفيز البحث لتطوير حلول تقنية لمنع أي تحميل وتعقب وإزالة فورية لأي نشاط إرهابي أو تطرف عنفي من الشبكة، ودعم البحث والجهد الأكاديمي لفهم ومنع ومواجهة النشاط الإرهابي عبر الإنترنت.
يعكس هذا البيان إدراك المستوى المتقدم والخطير الذي وصل إليه خطاب الكراهية وخطاب التطرف المؤدي إلى العنف، حيث بات يهدد استقرار المجتمعات وأمن الدول، ويقوّض قيم الرابطة الإنسانية الجامعة نتيجة مسعى هذا الخطاب تحويل البشر إلى جماعات متناحرة، ويهبط بالإنسان إلى أدنى تعبيراته الغرائزية المتوحشة.
الإرهاب مظهر عدمي لأنه ينزع إلى إفناء الحياة بكل صورها، وإنهاؤه الكامل لا يكون إلا ببعث الحياة بتدفقاتها اللامتناهية وتنوعاتها اللامحدودة
تبين أن الإرهاب والتطرف العنفي لا ينبعان من دين مخصوص أو بيئة ثقافية وعرقية وإثنية مخصوصة، من قبيل تصويره على أنه خصوصية إسلامية، أو تصويره على أنه نتاج ثقافة وبيئة عربيتين. لنتذكر هنا أنه بحسب كتاب تيم ماكنتوش القيّم “العرب: ثلاثة آلاف عام من التاريخ”، فإن العرب وفقا لدراسة اشتملت على بعض الدول العربية يشكلون 5 بالمئة من سكان العالم، إلا أنهم بالمقابل يمثلون 68 بالمئة من ضحايا الحروب، و58 بالمئة من لاجئي العالم.
الإرهاب والتطرف العنفي هما نتاج شرط بشري، أي صناعة بشرية تتحصل بفعل مراكمة ظروف بيئية وسياسات خاصة ووضعيات إنتاجية ونظم علاقات، خلقت واقعاً عالمياً يغلب فيه الصراع على السلم، والقطيعة على المحاورة، والتهور على التروي، والاصطفاف على التعدد الإيجابي، والندرة على الوفرة، والاحتكار على التوزيع المنصف، والتنافس على الإحسان.
أدركت هذه الدول أن قضية الإرهاب والتطرف لم تعد مشكلة محلية فقط، بل باتت ذات طبيعة معولمة، وذات خطاب كوني قادر على اجتذاب أتباعه ومتحمسيه في كل بقاع الأرض، وقادر على إحداث ضرباته المؤلمة في كل مكان، حيث بات العالم بأسره مسرح نشاطه وانتشاره.
أدرك الموقعون أن قضية الإرهاب والتطرف لم تعد مسألة أمنية فقط، بمعنى أنها لم تعد من اختصاص أجهزة الأمن والمخابرات والقوات المسلحة، لأنها سلوك إنساني منحرف اتخذ لنفسه خطاباً تعبويا جاذباً، وتضامنات جماعاتية متفرقة، وعصبيات أخذت تتسامى بنفسها إلى حد القداسة، ما جعلها ظاهرة ذات قضية تحمل نبلا ظاهرا وخبثا باطنا، يضيق بها العالم بوجود آخرين مختلفين، فتعطي لنفسها الحق المطلق في إنهاء حياتهم لتحتكر الوجود ونعم الحياة لنفسها.
لمس الموقّعون أهمية سياسات الإدماج والمبادرات الاجتماعية في تشخيص هذه الظواهر ومحاربتها وإلغائها. فالأساس ليس الاقتصار على تشريع قانون فاعل وتطبيق قانوني حازم، بل منح المجتمع القدرات الفكرية والعلمية والخبرات والمهارات في التضييق على ظاهرتي الإرهاب والتطرف العنفي، وإزالتهما ومحو آثارهما في المجتمع.
وهذه هي الوسيلة الأكثر فعالية، من خلال إلغاء مسبباتها وعوامل نشأتها ومنبت نموها وتطورها. فالمجتمع يمثل الأرضية الأولى لنمو التطرف والإرهاب، ويمثل المكان الأمثل لمقاومتهما والقضاء عليهما. وهذا لا يكون إلا بمجتمع يقوم على قيم جامعة ودينامية فاعلة ومبادرات خلاقة وثقافة بديلة وتضامنات تغني الرأسمال الاجتماعي وحياة سياسية تقوم على المواطنة الحاضنة للتنوع.
هذا يعني أن مواجهة ظاهرة الإرهاب في نشاطها الأثيري والمجتمعي تكون بالنظر ليس في أسبابها القريبة والمباشرة، بل في أسبابها البعيدة التي تتعلق بالظروف الحياتية للإنسان والانتظام السياسي ومنظومة القيم التي نتربى عليها وننظر فيها إلى الآخر المختلف.
فلا نتعجب حين نجد أكثر مواطن الإرهاب خصوبة في الأماكن التي يعم فيها الفقر وسوء توزيع الثروة، وتنسد فيها سبل وآفاق الحياة الكريمة، ويشتد فيها الاستبداد والممارسات البوليسية، وتسود فيها ثقافة التفوق العرقي أو الديني، وتعم فيها العصبيات المتوترة، وتتخذ فيها خطب الكراهية وضعية مشروعة بل تصبح جزءا من الحياة السياسية والثقافية فيها.
عولمة الإرهاب تستدعي مواجهة معولمة لها، بمعنى تعاضد دولي وتكامل جهود جميع المؤسسات الدولية لمواجهة هذه الظاهرة. فلم يعد بالإمكان تجزئة مشهد الإرهاب أو التركيز على جانب منه وإهمال جوانب أخرى أكثر فتكا. ولم يعد بالإمكان تصنيف الإرهاب بلون واحد وغض النظر عن أشكال إرهاب أخرى مثل:عقيدة التفوق العرقي، وعقيدة الشعب المختار، وممارسات التمييز العنصري الإسرائيلي، والتحريض على الأجانب واللاجئين والمهاجرين، وخطاب الكراهية ضد الأديان المختلفة.
تعهدت الحكومات بالعمل مع المجتمع المدني لتعميم جهود الجماعات المتصدية لمواجهة التطرف بكل أشكاله، بما فيه تعميم خيارات إيجابية ورسائل مضادة للإرهاب والتطرف
ولم يعد بالإمكان محاربة الظاهرة من دون التصدي لمشكلات عالمية من قبيل الفقر والجفاف وتركز الثروات بأيدي قلة قليلة، ولم يعد بالإمكان تحويل محاربة الإرهاب إلى شعار سياسي أجوف يستعمله قادة ذوو سمعة عالية في انتهاك حقوق الإنسان، بل حتى رصيد عال في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
نحن لا نطالب بعالم بلا قوانين، أو قيم أخلاقية افتراضية عائمة في الفضاء، بل نرغب في قيام عالم حديث ومتوازن يحترم المنظومة الاقتصادية ومنظومة الاتصال ومنظومة الأمن بصفتها منجزات مادية ضرورية للانتظام البشري العام. إلا أننا بالمقابل نرغب بنظام عالمي تتأنسن فيه علاقاتنا، ويحترم فيه تنوعنا، وتُحفظ فيه تدفقات الحياة واستمراريتها، لنؤمِّنُ لأنفسنا انتقالاً من صور الصراع المتمثلة في صراع الإنسان ضد أخيه الإنسان، ونوفِّرُ لأنفسنا قدرة مشتركة على مواجهة عوامل الطبيعة وتحدياتها القاسية كالجفاف والتصحُّر، ونُقلِّلُ إلى حد كبير الكوارث التي يلحقها الإنسان بالإنسان والطبيعة معا.
قضية محاربة التطرف العنفي والإرهاب، هي في عمقها قضية اعتقاد عميق وراسخ بقيمة مطلقة للحياة الإنسانية بكل صورها ومظاهرها المتنوعة مقابل عقيدة ارتكاس (Decadence) تحط من قيمة الحياة، وقضية إيمان بالإنسان وحقه في إطلاق إمكانات وجوده اللامحدودة، مقابل عبودية معطلة لطاقة الإنسان وقامعة لتوترات وفيض، وقضية كرامة إنسانية آن أوان اعتبارها مرجعية في صنع السياسات وركيزة في بناء الهويات وقيمة عليا لكل القيم، مقابل عقل المصالح الخالي من أي شفقة أو تعاطف إنساني، والأنانية المتفلتة التي تتستر بالحرية والنهب الذي يسوغ نفسه زورا بعنوان التنافس المعقلن.
الإرهاب مظهر عدمي لأنه ينزع إلى إفناء الحياة بكل صورها، وإنهاؤه الكامل لا يكون إلا ببعث الحياة بتدفقاتها اللامتناهية وتنوعاتها اللامحدودة. فالسلب والعدم لا يواجهان بسلب وعدم مثلهما، بل بطاقة إيجاب وإرادة وجود وانوجاد وفعل خلقٍ وتحقق دائمين، وبلا ذلك فكيف ستكسب الإنسانية معركتها. يقول جون ف. كينيدي “التغيير هو قانون الحياة؛ أما أولئك الذي ينظرون إلى الماضي وحده أو إلى الحاضر وحده فلا شك أنهم سيخسرون المستقبل”.
العرب الجمعة 2019/05/31