من حر الشوب اشرب رايب
لو قمت بتحليل ذرات جسدي حتى سلاسل أحماضه الأمينية وبروتيناته، لوجدت نسبة عظيمة من مكوناته، هي حموضة لبن بلدي ومرارة جعدة وشيح، ولم تجانب الصواب تلك الزميلة حين أطلقت على كتابتي وصف «شبيه الشيح»، نظرا لمرارة الحقيقة فيها..
كنت طاعنا في الجوع وأنا طفل صغير، وليس السبب قلة الغذاء، بل كنت أعاني من خلل ما في معدتي، وكانت والدتي حفظها الله تحضر لي يوميا كأسا أو أكثر من الجعدة المغلية أو الشيح، أبدأ نهاري بها بكل المرارة، وإن لم يتوفر لأمي الوقت لتغلي الجعدة، كانت تفرك في يديها الطاهرتين قبضة منها وتقول «إلهمها ع الريق»، وأحيانا تزودني بمقدار منها أضعه في جيبي سواء أذهبت للمدرسة أم انطلقت مع بقية العائلة الى الشغل، أنا شربت شراب الجعدة أكثر مما شربت الماء العادي حتى بلغت عمر 15 عاما تقريبا وشفيت معدتي تماما، لكنني لم أترك الجعدة والشيح حتى اليوم، وكذلك أقول عن اللبن، كنت أرفع «طاسة» اللبن المخيض بزبدتها أحيانا، ولا أستطيع التوقف عن شربها إلا أن يتدخل أقرب الموجودين لسحبها مني، كانت حالة نفسية غريبة تنتابني حين تبدأ نكهة اللبن بالسريان في فمي وجوفي، حتى معدتي كنت أشعر بها حين تتحول الى معدة معدنية بل فولاذية..وحتى اليوم ما زلت أحتفظ بالعادة فلم تخل «جيوبي» من بقايا اللبن الجميد ..
ورغم وجودي في هذه المدينة القاحلة من قطعان الغنم ومن الجميد ورائحته، فأنا لم أنجح بترك هذه العادة، وأمام إلحاح شهوة اللبن المقيمة في نفسي وجسدي، أنطلق اسبوعيا ومنذ بداية الربيع حتى الشتاء الى جلعاد وغيرها، أشتري حليب الضأن أعني الغنم البياض، وأحضره الى المنزل، وأقوم بترويبه، ثم أقوم «بخضّه» في خضاضة جلبتها لهذه الغاية، أشرب لبنا مخيضا مأمونا «مبخونا» يفجر كل النكهات والذكريات في كل أوصالي، وأفرز الزبدة فأحتفظ ببعضها وأحول البقية الى سمن بلدي، وأصنع جزء من «مونتنا» من الجميد، الذي لا يلبث ويختفي بسبب دوامي على استلال «زر» تلو الآخر، آكله كلما دبّت الشهوة في أوصالي، فانتعاش جسدي بحموضة اللبن لا تعادلها لذة ولا روقان..المهم: إنني مواضب على الرايب منذ مطلع العام الحالي..
رايب السوق متواجد بغزارة، وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة تقوم بدورها لتنظيم قطاع الحليب ومنتجاته على الشكل الذي يحمي المزارعين وانتاجهم المحلي، إلا أن السوق تشهد تنافسا محليا بين مصانع لمشتقات الحليب، وهو أمر ليس لوزارة الزراعة علاقة به، لكن جدير بالقول بأن الوزارة حافظت على توازن هذه السوق، بوقف استيراد «البكاكير» من الأبقار منذ 2017 تقريبا، علما أن حاجة السوق المحلية من الحليب ومشتقاته حوالي 470 الف طن سنويا، منها 100 الف طن حليب أغنام، وجدير بالقول أيضا أن عدد الأبقار حتى نهاية 2017 بلغ 105 ألف رأس، علما أن عدد سلالات أبقار الحليب حوالي 92 ألف رأس..وقد بلغ عدد المزارع المرخصة وغيرها حتى نهاية 2017 تقريبا 830 مزرعة، وهناك 16 مصنعا أردنيا معروفا مختصة بصناعة الألبان وبعض المشتقات الأخرى، ولا ننسى أن هناك 300 من «الملابن» موزعة في كل المحافظات، وبلغت كمية منتجات الحليب «ألبان وغيرها» المستوردة خلال العام نفسه حوالي 164 الف طن، بينما كان مجموع الكمية المنتجة محليا والمستوردة في نفس العام حوالي 650 الف طن..
تساءلت يوما أمام د. هايل عبيدات مدير عام مؤسسة الغذاء والدواء عن مصدر ما نراه في الأسواق من الحليب ومشتقاته المختلفة، قلت له أشعر بأننا نعوم على بحر من الحليب، فمن أين تأتي هذه السلع؟! فأجابني بأنه كله انتاج محلي تقريبا، وهو خاضع للرقابة ولا يوجد فيه منتجات من زيوت مهدرجة، ولا يتم عرض شيء لا يحمل بطاقة بيان بمكوناته ومصدرها وتوقيتات الصلاحية المعروفة.
قطاع صناعة الألبان هو قطاع وطني، وصناعاته وطنية وعلى درجة عالية من الجودة، وهو كغيره من القطاعات الانتاجية يخضع للسوق وقوانينها، التي تعتمد على التنافسية والجودة بعيدا عن تدخل الدولة حسب اتفاقيات التجارة العالمية، ومع هذا فإن قطاع الثروة الحيوانية الزراعي يحظى بأشكال من دعم وطني، تقوم به وزارة الزراعة لتنظيمه وحمايته في الأردن، وتقول الأرصاد الجوية :غدا تداهمنا موجة حرّ..سأردد فيها «من حم الشوب اشرب رايب «.
الدستور