الشباب العربي وجدل الدين والريبة والأمل
شكل الشباب العصب الرئيس للانتفاضات الاحتجاجية التي اجتاحت العالم العربي 2011 ،وسرعان ما أجهضت الحراكات السلمية بطرائق شتى، وقمعت أحلام الشباب بحلول ربيع عربي وتحقيق مستقبل أفضل، وعلى مدى عقود عانى الشباب في الشرق الأوسط من الإقصاء الاجتماعي والسياسي والبطالة والعنوسة، وزادت المعاناة بعد ما عُرف بـ «الربيع العربي» حيث واجه الشباب الاعتقال والقتل من الأنظمة في دول الشرق الأوسط لمطالبته بأبسط حقوقه وهي العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وسط تدهور الأحوال المعيشية مما جعل بعضهم يتجه إلى اللامبالاة، بينما اندفع بعض الشباب إلى التطرف العنيف والانخراط في جماعات «إرهابية».
في هذا السياق تكاثرت الدراسات الشبابية في المنطقة عقب «الربيع العربي»، إذ يمثل الشباب العربي نسبة مهمة من المجموع العام للسكان في هذه البلدان، فحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2016 تحت عنوان «دور الشباب وآفاق التنمية واقع متغير» الذي أصدرته الأمم المتحدة، يشكّل الشباب العربي نسبة 30 في المائة من سكان هذه المجتمعات والتي تقدرّ نحو 370 مليون نسمة، ويبدو أن معظم الدراسات المتعلقة بشباب المنطقة لم تغادر المقاربات الاستشراقية والثقافوية، وحسب ميسون سكرية في دراسة بعنوان «فائض الشّباب العربيّ والعنف في تقارير التنمية البشرية العربية» فإن معظم هذه التقارير تحلّل العالم العربيّ من خلال إطارٍ واسعٍ من الثقافويّة، حيث تكونالثقافة مركزيّةً وتكوينيّةً في تفسير انتفاء التنمية البشرية في المنطقة العربيّة، وتُحيل معظم التّقارير إلى مجموعة قيم وممارسات «تقليديّة» ثابتة يُقال إنّها تتعارض مع ممارسات الحداثة وضغوط وقوى عالم متعولم.
لكنّ هذه النّزعة تتجاهل المدى الذي تتمّ فيه إعادة تخيّل وإعادة ابتكار «التّقاليد» بحدّ ذاتها، بما هي جزء من العالم المعولم الحديث واستجابة له. ثمة دراسات نادرة تتسم بالموضوعية النقدية والصرامة العلمية، وتتجاوز المقاربات الاستشراقية والثقافوية كدراسة الإنتربولوجي الأميركي سكوت في كتابه «الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم»، ففي مجال دراسة مسألة ارتباط الشباب بالدين والعنف، حسب خالد يايموت لم يعد من الممكن الاكتفاء المرضي بخلاصات الدراسات الغربية في هذا المجال، سواء صدرت من مراكز أبحاث فرنكوفونية أم أنغلوساكسونية، أو حتى تلك التي أصدرها خبراء غربيون في هذا المجال.
ذلك أن معرفة النسق الاجتماعي وما يتعلق بالحياة المادية التنظيمية، وجزئيات الحياة الاجتماعية، يتطلب الخروج من التعميم السائد في الدراسات الإنتربولوجية الاستشراقية التي تؤكد أن المجتمع العربي المعاصر يعيش تحت سطوة الدين، بالمعنى الذي يجعل من المجتمع، وقوته الشبابية مجرد أسير في زنزانة شيدها الإسلام لتكون حياة مغلقة وعنيفة.
قبيل فترة الألفية الجديدة، نادرا ما كان موضوع الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا يحظى باهتمام لدى دارسي العلوم الاجتماعية، حسب الصديق محمد تركي الربيعو فالطبقة الوسطى، أو الجندر كانتا المداخل المفضلة التي يعتمدها عدد كبير من الباحثين لفهم ما يحدث من تغيرات في هذا العالم. مع عام 2001 ،لن يبقى الحال على ما هو عليه.
إذ عرف هذا العام مشاركة عدد من الشباب الصغار في العمر، القادمين من بلدان شرق أوسطية، درسوا في جامعات غربية، في ما عُرِف بـ«غزوات نيويورك»، وهذا ما شكل صدمة ومفاجأة كبيرة للكثيرين. فهؤلاء الذين ظنّ الغرب أنهم ما قدموا إليه إلا للغرف من خزانة معارفه وقيمه، ها هم يقودهم رجل في أحد الكهوف، وفق وصف الغربيين، إلى مغامرة جهادية في مواجهة العالم الجديد، وفي ظل هذه التساؤلات، سيصل بعض الباحثين ومراكز الأبحاث الغربية إلى أن هؤلاء الشباب، ما هم إلا نتاج فكر تقليدي ديني بقي يحكم عقلية المؤسسات التعليمية والاجتماعية؛ إذن فهؤلاء ضحايا أو رهائن، وقعوا في شباك مؤسسات وفكر ديني متطرف.
رغم هيمنة المقاربات الاستشراقية والثقافوية في دراسة المنطقة عموما والشباب خصوصا، فثمة دراسات جادة تناهض التعميمات الاستشراقية المجانية من خلال مقاربةتقاطعية مركبة ومعقدة، ويقع كتاب «مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، من تحرير يورغغِرتِل، ورالف هِكسِل، الذي صدر حديثًا عن دار الساقي ببيروت، وترجمة: ماريا الدويهي، ضمن هذه الكتب الرصينة الجادة التي تناهض جملة من الدراسات والمسوحات واستطلاعات الرأي المتكاثرة، التي تتناول ظاهرة الشباب والتدين والعنف وكان آخرها التقرير الذي نشرته قناة «بي بي سي» حول نتائج استطلاع البارومتر العربي تحت عنوان «هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟»، إذ يفصح عنوان التقرير عن إشكالية في فهم الدين والتدين ومعايير انتشاره وانحساره، إذ يحذرنا رشيد جرموني في بحثه «الظاهرة الدينية وجدل المنهج السوسيوغرافي والبيوغرافي وقفة إبستيمولوجية» من التعاطي مع النتائج الخاصة برصد مؤشرات التدين في العالم وفي الوطن العربي والإسلامي تحديداً، ويؤكد عن جدلية المنهج السوسيوغرافي في مقابل المنهج البيوغرافي، فعملية قياس التدين تطرح صعوبات منهجية وإبستيمولوجية على قدر كبير من الأهمية، وذلك بالنظر إلى أنّ طبيعة القيم الدينية وقدرتها على التخفي والتستر تجعلها غير واضحة ولا شفافة، فإنّ ذلك ما يجعلنا نؤكد أنّ عملية قياس التدين تطرح إشكالات إبيستيمولوجية، يجب أخذها بعين الاعتبار حتى لا ننزلق في تأويلات خاطئة.
يحذرنا كتاب «مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» من الوقوع في شباك الاستنتاجات المتسرعة لمقولات تراجع الميول الدينية لدى الشباب، حيث رفض بعض الباحثين هذه الاستنتاجات المتسرعة، فوفقا لهم، تكمن إشكالية هذه الاستطلاعات في بقائها أكثر انحيازا لمقولات إعلامية منها لتفسيرات سوسيولوجية، وقد ركزت دراسات الكتاب على «فقدان الأمن» و«غياب اليقين» كمصطلحين رئيسيين لوصف وضع الشباب والإحاطة به، حيث ينطبق فقدان الأمن على ظروف المعيشة وتوفر الموارد، في حين يرتبط غياب اليقين بكيفية تعاملهم مع المستقبل في ما يتعلق بآمالهم وأحلامهم؟، وقد شملت الدراسة تسعة آلاف شاب تتراوح أعمارهم بين الـ16 و30 سنة في ثماني دول عربية: البحرين، الأردن، لبنان، المغرب، فلسطين، تونس، اليمن إلى جانب اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان. رغم أن الدراسة شملت عدة قضايا تتعلق بالجندر والقيم والنظرة للمستقبل والجوع والهجرة، فإن فصل «الدين والشباب» حسب الربيعو كان من بين أكثر الفصول لفتا للاهتمام، في ظل النتائج التي كشفت عنها استطلاعات الرأي. وقد ضمّ الاستطلاع 94٪ مسلمين و6 ٪مسيحيين. وردا على السؤال: ما هي درجة تدينك اليوم؟ وفق معدل يتراوح بين نقطة واحدة (لست متدينا على الإطلاق) و10 نقاط (متدين جدا)، اتضح أنالشباب في البحرين هم الأكثر تدينا، في حين كان الشباب في تونس هم الأقل. وعموما سُجِّل ارتفاع طفيف في نسبة التدين لدى المستطلعين، مقارنة بمعدله قبل خمس سنوات، الأمر الذي فسّره معد هذا الفصل (رشيد أوعيسى/جامعة ماربورغ الألمانية) كون الجيل الأكبر سنا كان يؤمن بالأحلام التي كانت تحركها الدولة، كما أنه استفاد من الازدهار الاقتصادي الذي عرفه عدد من البلدان في الثمانينيات، في حين مُنع الجيل الأصغر سنا في يومنا من الارتقاء.
وبالتالي تبدو الشعبية الحالية للدين والقيم الدينية في أوساط الشباب العربي، نوعا من البديل عن غياب فرص اجتماعية ومهنية. في معرض الإجابة على سؤال ما هي درجة تدينك اليوم؟ نجد أن 34 ٪من الشباب المشاركين في الاستطلاع صنفوا أنفسهم بـ«المتدينين جدا و32 ٪بـ«المتدينين نسبيا» ونحو 24 ٪من المستطلعين هم «متدينون بعض الشيء» في حين سجل 8 ٪فقط نسبة «تدين متدن»، وإذا ما قارنا هذه الأرقام مع تلك التي تقيس مجموعة المتدينين نسبيا، نجد انخفاض الأرقام بالنسبة إلى الذين سجلوا تدينا متدنيا من 12 ٪إلى 8) ٪خلافا لتقرير بي بي سي الأخير) حسب الربيعو، أو الذين صنفوا انفسهم بـ«المتدينين نسبيا» من 27٪ إلى 24 .٪
ويدل هذا على ارتفاع شامل لنسبة التدين، وربما للتطرف الديني على مدى نصف العقد المنصرم. خلاصة القول أن كتاب «مأزق الشباب» يطرح رؤية مغايرة للسائد الاستشراقي الثقافوي، إذ يخلص إلى أن التدين قد يكون نوعا من رأس المال للتعويض عن تدني الفرص الاجتماعية والمهنية، التي كانت متاحة للجيل الأقدم المجهز برأسمال تعليمي، إذ يمنح الدين شعورا بالأمن والتفاؤل، ليضفي على الآفاق الاقتصادية القاتمة بعض الأمل، إذ نجد أن 74 ٪من الشباب المتدينين جدا متفائلون بالنسبة لمستقبل أفضل، في حين أن درجة التشاؤم أكبر في أوساط الأشخاص ذوي التدين المتدني. ولعل ما يلفت النظر أيضا حسب الربيعو، أن غالبية المتدينين جدا أيدوا نظاما سياسيا ديمقراطيا بدلا من نظام حكم مبني على الشريعة. من خلال الربط بين نتائج الدين وغياب اليقين وتفضيل نظام ديمقراطي يصل التقرير إلى نتيجة وهي، أن الدين لم يعد مشروعا اجتماعيا، أو سياسيا شاملا، أو قاعدة ليوتوبيا اجتماعية إسلامية، بل غدا ركيزة لتحقيق اليوتوبيا الفردية، التي تشكل أيضا سندا في حالات غياب اليقين التي يعيشها العالم العربي، الأمر الذي يعني تداعيا في التدين السياسي وتقدما على مستوى التدين الاجتماعي.
الراي