فساد الحكومة
كنت أتساءل لماذا سمينا استهلاك الموارد الطبيعية والهبات الأساسية كالماء والتراب والهواء “بالتلوث”، ولم نسمه فساداً؟ ويُعرف الفساد من قبل الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه “تفسير المنار” بأنه كل ما يُخرج الشيء عن الطبيعة التي خلقها بها الله.
ونحن عندما نعبث علمياً بتكوين الأشياء فإننا أيضاً نخلق لأنفسنا مشكلات جديدة، حتى ولو انطوى هذا البحث العلمي على نفع كبير وزيادة في كميات الانتاج لمواجهة الطلب الناجم عن زيادة أعداد السكان.
ونذكر أن روبرت مالقوس، أحد الاقتصاديين الكلاسيكيين في بريطانيا القرن التاسع عشر، نشر كتابه في نهاية القرن الثامن عشر بعنوان “بحث في مبدأ السكان ومقالات أخرى”. وأثار العالم في ذلك الوقت حين قال إن الغذاء في العالم ينمو وفق متوالية حسابية، (2، 4، 6، 8، 10، ….) بينما يتزايد السكان في العالم وفق متوالية هندسية (2، 4، 8، 16، 32…). وبهذا تكبر فجوة الغذاء، ويجوع الناس، ويهزلون، وتقل إنتاجيتهم، وتقع الحروب.
ولكن الذي حصل أن التكنولوجيات تطورت بمعدلات سريعة، جعلت النمو في الغذاء وإنتاجه يتبع المتوالية الهندسية. والمشكلة كما يقر كثيرون أنها ليست مشكلة كمية الغذاء، وإنما توزيعه وانماط استهلاكه.
وقد تبنى ملك تايلاند الراحل “بوميبول أديوليادج” نظرية الاكتفاء الغذائي لو جرى توزيع الغذاء على سكان العالم بعدالة.
ولكننا بزيادتنا للغذاء أحدثنا تغييراً في تراكيب السلع الزراعية فتغيرت قيمتها الغذائية، واستخدمنا الكيماويات في الرش ومحاربة النباتات الطفيلية، ولجأنا إلى استخدام البلاستيك للزراعة والتعبئة والتخزين والتوزيع. ونتج عن هذا مشكلات جديدة مذكرة إيانا بالآية الكريمة “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه”. وأن الإنسان في كمد ونصب حتى يلاقي خالقه.
أما الفساد الخُلقي فهو نابع أصلاً عن هلع الإنسان ورغبته الجامحة في امتلاك ما يظن أنه يأتيه بالحياة الحلم والسعادة المادية. وعندما تقصر إمكاناته المادية عن رغباته. يلجأ إلى كسر القوانين والقواعد السلوكية المتعارف عليها لإبقاء الحياة على مدنيتها. فالقوي يستغل مكانته، والموظف يستثمر موقعه، والقوي يتجرأ على الضعيف. وترى هؤلاء يتكولسون فكراً وإجراءً وتنفيذاً لكي يبرروا لبعضهم البعض اعتداءهم على حقوق الآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر.
فالشخص الذي يشعر أن غياب العدالة يقويه على طالبي الخدمة منه يستخدم مكتبه وموقعه وتوقيعه لكي يبتز مالاً ليس من حقه. وإذا جوبه بالرفض، لجأ إلى سلطة عشيرته أو عائلته، وإن لم يسعفه ذلك لجأ إلى منصبه إن كان قد حاز على منصب يتفاخر به.
لقد سخّرنا كل ما يتاح لنا من متاع الغرور وعَرَض الدنيا إلى وسائل للتكسّب لكي نتهرب من مواجهة الجانب القانوني الذي من المفروض أننا كلنا قد اتفقنا عليه.
ولا نكتفي بهذا، بل إننا نحاول أن نبني قضية لصالحنا قائمة على تبني منهج نعلم سلفاً أنه مقبول بعمومه. وإن لم ينفع ذلك نربك المسؤول بمعلومات فنية قد لا يحيط بها فيرتبك، ويؤخر القرار في حالة العطاء. ثم إذا لم ينفع التنظير ولا العلم نلجأ إلى الضغط عن طريق الاتهام، وإطلاق الاشاعات.
ومما يشجع البعض هو التناقض في مواقف الوزراء والمسؤولين، فهذا شخص يحبونه يسعون لفرضه صلح أم لم يصلح، ويعطونه مزايا مخالفة إما للقانون او التعليمات أو الأمر المتفق عليه. ويتدخلون في التعيينات، ويضغطون على مجالس الإدارة في الشركات التي تساهم فيها الحكومة أو الضمان الاجتماعي لكي يتحمل المجلس نيابة عن الحكومة مسؤولية القرار الخاطئ.
إن محاربة الفساد تبدأ بمراعاة الكبار للأصول والقواعد، أهمها القانون. وكل تجاوز حكومي يؤدي إلى عشرات التجاوزات على مستوى الموظفين الذين يحتكون بالناس.
الغد- الاثنين 5-8-2019