خمس جبهات... والسادسة على الطريق
أمس، وقبل أن يدلي السيد حسن نصر الله بخطابه، ذهبنا في مقالتنا للقول بأن حزب الله سيرد على الضربات التي وجهتها إسرائيل لحزب الله جنوبي دمشق وفي ضاحية بيروت الجنوبية، وأن الرد سيكون متناسباً في الشدة والمقدار، وأن الانتظار لن يطول ... ذهبنا أبعد من ذلك للتأكيد: بأن الحزب سيرد أصالة عن نفسه ونيابة عن محور بأكمله ... ساعات بعد كتابة المقال، وجاء الخطاب ليؤكد على نحو قاطع ما كنا ذهبنا إليه، وأحسب أن من يعرف حزب الله، وشخصية حسن نصر الله ونظرته لنفسه وموقعه ودوره، ما كان ليقول شيئاً مختلفاً.
هي إذن، مسألة أين ومتى وكيف، لا أكثر ولا أقل، وقد نفاجأ صبيحة يوم نشر المقال، بأنباء عن ضربة عسكرية نفذها حزب الله ضد أهداف إسرائيلية ... هذا أمرٌ تعرفه إسرائيل ويعرفه نتنياهو الذي يبدو أنه قرر الذهاب حتى نهاية الشوط، في حربه البائسة واليائسة، لاسترداد صورة إسرائيل الردعية، وترميم صورته الممزقة بالفضائل والتحقيقات ... الرجل الذي استمرأ «اللعب بالنار» يقترب من إشعال حريق إقليمي شامل.
عاود ضرب الحشد الشعبي في الأنبار (القائم)، وعاود انتهاك السيادة اللبنانية في البقاع (قوسايا) بعيد خطاب الأمين العام لحزب الله، وكأنه يستعجل ردة فعله الانتقامية ... خرج كعادته بحركات استعراضية يتحدث فيها عن عمليات معقدة نفذتها أجهزته الأمنية انتهت إلى شن ضربة استباقية ضد محاولة إيرانية لضرب إسرائيل بطائرات مسيّرة «انتحارية»، لكأنه يريد إعادة تجربة الأداء الاستعراضي التي أدّاها في الأمم المتحدة حول برنامج إيران النووي، أو في تل أبيب بعد عملية الموساد ضد الأرشيف الإيراني «النووي» ... هذا الرجل يستحق الأوسكار عن «فئة الأفلام الاستعراضية»، ولا يستحق أن يطلق عليه وصف «رجل الدولة» أو «سيد أمن» أو «ملك إسرائيل» ... نتنياهو فتح باب الجحيم، وما لم يتراجع خطوة للوراء بعد ابتلاع ضربة حزب الله، وليس قبلها، فكرة النار ستتدحرج وستكبر، وستتطاير شراراتها عابرة الإقليم برمته.
خمس جبهات يفتحها نتنياهو دفعة واحدة: العراق، سوريا، لبنان، غزة والضفة الغربية ... وهناك جبهة سادسة لا نستبعد أن يفتتحها قريباً في اليمن، ضد أنصار الله الحوثيين، فقد توعدهم بذلك، وهو ربما يعتقد بأن وصول الذراع العسكرية الإسرائيلية لليمن، أمرٌ سيزيد في تدفق الأصوات إلى صناديقه في الانتخابات المقبلة ... في ظني، وهذا أمر مرجح، فقد تأتي النتائج بما لا تشتهي سفن حملته الانتخابية، فلا أظن أن غالبية الإسرائيليين تريد فتح كل هذه المعارك وإشعال كل تلك الجبهات، سيما وأن «العائد العسكري» لعملياته «الانتحارية»، يكاد يقترب من الصفر.
باستثناء الغارة على «عقربا» جنوبي دمشق، بدت عملياته الأخرى، أقرب إلى «الألعاب النارية» منها إلى العمليات الحربية المؤثرة ... ما قيمة ضرب «ٍسيارة» للحشد في القائم، أو مستودع لا أدري متى استخدم فيها لآخر مرة في «قوسايا» ... ما قيمة الألعاب النارية في الضاحية، بعد أن تأكد أن طائرته المسيّرة أسقطت بحجر، وطاردها الشبان بين البنايات في أحياء بيروت الجنوبية ... أية حماقة تلك التي يقارفها الرجل؟ حقاً إن الحماقة أعيت أصحابها.
لكن الصورة لن تكتمل من دون معرفة ما الذي يدفع «أحمق تل أبيب» لافتعال كل هذه الأزمات والاشتباك على كل هذه المحاور والجبهات آمناً مطمئناً؟ الجواب جاء بعيد ساعات من إشعال الحرائق في دمشق وبيروت وغزة والأنبار، ومن مايك بومبيو شخصياً الذي تكفل بإجراء مكالمتين هاتفيتين اثنتين: واحدة مع نتنياهو لتجدد دعم واشطن «حق» إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والثانية مع الحريري يدعوه للتهدئة وضبط النفس وتفادي التصعيد ... أية وقاحة هذه؟ واشنطن تدعم العربدة الإسرائيلية وتشجعها وتطالب أهدافها وضحاياها بضبط النفس (؟!) ... واشنطن «تطلّق» عقلها، وتقبل بكل الأكاذيب الإسرائيلية، وتجاري نتنياهو في أقذر ألاعيبه، حتى وأن أدت سياساته إلى ضرب مصالح حلفائها وأصدقائها في العراق ولبنان، وأفضت إلى تعميم حالة انعدام الاستقرار وتفشي الفوضى في المنطقة برمتها.
الدستور -