المذكرات السياسية والسير الذاتية ما لها وما عليها
لا تستطيع ان تجزم بصحة المذكرات السياسية ولا الشخصية التي يكتبها اصحابها ما لم تكن شاهدة ومشهودة من قبل آخرين عاصروها او كانوا جزءا أو طرفا فيها .
كثير من المذكرات يخفي اصحابها صفحات كثيرة ، بل " كبيرة " من احداث رغم مضي عقود على وقوعها ، وهي تظل صفحات " سرية " ما لم يفرج عن وثائقها من قبل الدولة نفسها ، شريطة ان تكون هذه الوثائق حقيقية ومشهودا لها هي الاخرى من أكثر من جهة .
وإذا استثنينا التقارير والمراسلات الرسمية الموثوقة ، فإن كل من يكتب مذكرات ، أيا كانت ، مطلوب منه توثيقها لأن الشهادات هنا ليست ذات بال وإن رواها شخص ثبْتٌ ثقة ، لأن " المتن " في هذه الحالة لن يسلم من الضعف بدون معززات تشترطها كتابة المذكرات الصحيحة عموما ، وإن كان المرء يستحسنها ولا يتهم صاحبها ، ولكن : الانطباع عن كاتبها شيء ، والتقرير العلمي عنها هي نفسها شيء آخر .
بل وحتى اذا تعلق الامر بحوادث شخصية لا يمكن توثيقها فإن الاستدلال عليها ايضا يكون من مهمة كاتبها وليس من مهمة متلقيها ، حتى وإن كانت من حيث المبدأ صحيحة : فكم من روايات لحادثة بعينها اختلف رواتها كل حسب موقفه منها ، فخرجت احداها اثنتين مختلفتين سندا ومتنا ودلالة لدرجة التناقض ، ومن له علم بكتابة السير الذاتية والمذكرات يعلم هذه الحقيقة البدهية .
كم من رواية تاريخية اعتمدت حتى اكاديميا ثبت بطلانها وهشاشتها وخفتها ، بل وكم من رواية لرواة معاصرين ، ثبت بعلم الجرح والتعديل - مجازا - أنها منقطعة او ضعيفة او منكرة ، فما بالكم بأحداث سياسية قد تكون غيرت وجه منطقة من العالم ، أو العالم بأسره حتى ،وما رواية احداث الحربين العالميتين إلا مثالا على عملية تأريخ من طرف واحد كتبه المنتصرون فقط .
لا شيء مختلفا البتة بين التأريخي والشخصي من حيث متطلبات الاثبات ، فكلاهما بحاجة لما قلنا آنفا :
عندما تزور بومباي الايطالية - مثلا - .. وتقرأ اليافطات التي علقت على الجدران قبيل انفجار بركان فيزوف الشهير عام 79 م ، وترى بأم عينك أناسا حفرت هياكلهم مع الرماد فظهروا في الحالة التي كانوا عليها قبيل مداهمة النيران والدخان منازلهم ومتاجرهم ومخابزهم ، ومن ثم تلتفت إلى شمال غرب نابولي فترى البركان بأم عينك ، فإنك ، وبرغم كل هذه الشواهد الدامغة ، ستدخل في عالم الضرب بالرمال ما لم يوثق الحادثة رواة شهدوا المأساة ، وهو ما وقع مع هذه المدينة التي كتب معاصروها وهم بالعشرات تفاصيل ما حدث لها فوجدنا ذلك سردا وعيانا غير قابل للشك ، فما بالك برواية لم يكتبها الا صاحبها الذي لا بد تتقاذفه الأهواء والرغائب ، ليس قصدا ربما ، وإنما لطبيعة النفس الانسانية الطامعة ، ولكون حب الذات غريزة فطرية لا فكاك منها .
ما دعاني لقول ما قلت في هذه العجالة لهذا الاسبوع ، أننا نطالع مذكرات سياسية عربية تترى هنا وهنالك ، ولا ندري حقيقة ، اوقعت احداثها ، أم انها من نسج الخيال ، فما بالكم إذا كان ابطالها في ذمة الله !.