هذا الإحساس «البدوي» النبيل
فيما مضى من «عمر» مجتمعنا، كان الاردنيون يعتبرون «الغريب» ، اي غريب، ضيفاً عليهم، ويتدافعون لخدمته وتقديم الواجب اليه، ربما كان يراودهم آنذاك احساس «بدوي» بأن قيمة الكرم مثلا ضرورة توفر لهم الحماية والخدمة، قبل ان توفرها للقادمين او المارين عبرهم ، وكانوا يعتقدون تبعا للمخزون « الديني» ان ارضهم هي ارض الحشد والرباط ، وتبعا للمخزون «العربي» انها ملاذ للاحرار ومنطلق للتحرر.
لكن مع تغير الظروف وتحول الاحداث اصبح «الاردني» اكثر انعزالا واكثر احساسا «بعقدة» الظلم وبعدم تقدير الآخرين له، وبالتالي تولدت لديه الرغبة بالدفاع عن ذاته ، والبحث عن مصالحه، وردّ الاخطار التي يعتقد انها تهدد وجوده ، وفي هذه اللحظة بالذات ومع موجة التحولات في عالمنا العربي التي اكملت موسم الهجرات المتتالية الى مجتمعنا، وكرست داخله الاحساس بحاجته الى استعادة كرامته وحضوره في المشهد الجديد، فهم البعض ان ما عبر عنه الاردنيون من دفاع عن ذاتهم وكرامتهم هو نوع من «العنصرية»، وهذا بالطبع فهم غير صحيح اطلاقا ، حتى لو اعتبرنا ان تصنيفات التنوع، وحدّة تداول «الهويات» والثنائيات وصراعات «الجغرافيا والديمغرافيا» التي جاءت في سياقات سياسية لا في سياقات اجتماعية هي جزء من وهم «العنصرية» او تهمة «التمييز».. مع انها في الحقيقة ليست اكثر من تعبير عن احساس بالخطر وتنبيه اليه.. ومحاولة لتحسين الظروف السياسية والاجتماعية التي افرزت ما لاحظناه من غضب ونزق احياناً.
الان ، حين تدقق بما تنشره بعض وسائل الاعلام تحت لافتة «العنصرية» تكتشف ان ثمة مناخات سياسية يجري استثمارها – بقصد غالبا - لحسم ملفات مسكوت عنها، او لزعزعة ثقة المجتمع بنفسه ، او لاغراقه في جدل مسعور وغير منتج، كما تكتشف بان ثمة محاولات لاستدعاء «وهم المظلومية» في اطار صراعات سياسية تعتمد اساسا على «التنوع» الاجتماعي وما يتضمنه من عوامل «ضعف» احيانا، بهدف تخويف المجتمع والاستقواء على ثوابته ، وعلى معادلات «المصالح» العامة التي يتوافق عليها.
لا يوجد في صميم تركيبة مجتمعنا روافع حقيقية لانتاج «العنصرية» ، فبعد عدد من الهجرات الكبرى استطاع هذا المجتمع ان يجد مساحات عريضة للانسجام والتعايش، وتمكن من استيعاب حالة التنوع والتعامل معها بمنطق «الاثراء» لا بمنطق «الاقصاء» ، لكن يوجد –للاسف- لدى البعض - وخاصة الفاعلين في المجالين السياسي والاعلامي - استعداد ورغبة في استخدام هذا المصطلح سواء لتأجيج مشاعر الكراهية وخلط الاوراق، او لانتزاع مكتسبات ذاتية ، او لتمرير وصفات تهدف الى اضعاف المجتمع في اطار لعبة تقاسم الادوار والمصالح.
لا ادعو هنا الى وقف استخدام هذا المصطلح ، سواء في المجال السياسي او الاعلامي ، وانما ادعو الى تجريمه ، فأخطر ما يمكن ان نواجهه هو ان نسمح لمثل هذه «الادوات» القاتلة ان تستحوذ على نقاشاتنا العامة ، او ان تجد لها «ملاذات» مشروعة في سياق نقاشاتنا السياسية، واسوأ ما يمكن ان نفعله هو ان نتقمص «حالة» اخرى لا علاقة لها بحالة بلدنا ، فنسقطها علينا دون انتباه لما تخفيه من محاولات بائسة للتغطية على الجريمة الاصلية، وتحميلها الى ضحايا متخيلين.
يبقى ان «مناعة» بلدنا اقوى مما يتصور بعض من يروج لهذه «المصطلحات» المغشوشة ، كما ان وعي الاردنيين الحريصين على تماسك مجتمعهم ووحدته أعمق من أنْ تنطلي عليهم مثل هذه المقولات والمحاولات غير البريئة، فهذا الاحساس «البدوي» النبيل بأننا جزء من أمة عظيمة ما زال جزءا اصيلا من شخصية الاردنيين.
الدستور -