المقالات المشتركة..!
من المقبول في عالم الأكاديميا أن يشترك باحثان في إنتاج مادة بحثية واحدة. وعادة ما تُقدم هذه البحوث إلى مجلات محكمة لإجازة نشرها والحصول على نقاط تُحسب للباحثين في رصيد الترقية. وتُقسم نقاط المخصصة للبحث المقبول للنشر بين الباحثين ولا تعطى لكل منهما النقاط كاملة. وبطبيعة الحال، يستخدم بعض الباحثين العرب هذا الخيار لأسباب مختلفة.
لكن هناك ظاهرة لا نظير لها تقريبا عند الكُتاب العرب، هي كتابة المقالات المشتركة للنشر في المجلات غير المحكّمة. وليس المقصود هنا القصص الإخبارية التي يعدها مراسلون صحفيون من عدة أماكن ويقوم محرر المكتب بتجميعها، وإنما مقالات تحليل أو رأي تريد أن تدافع عن أطروحة معينة. وفي العادة، لا يكون الكتاب المشاركون في كتابة موضوع واحد مختلفين في الآراء، وإنما يكتبون كأنهم شخص واحد. ولن تعرف من المادة ماذا كتب هذا أو ذاك، ويبدو أن هناك آليات يعرفها الذين يمارسون هذا النوع من الكتابات المشتركة.
هذا النوع من المقالات متعدد المؤلفين شائع جداً في الغرب، وسوف تجده دائماً في مجلات مثل “فورين أفيرز”، و”فورين بوليسي”، و”ذا ناشيونال إنترست”، ومنشورات “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” أو “معهد بروكينغز” أو “مجلس الأطلسي”، على سبيل المثال لا الحصر. ويبدو أن هناك الكثير من المزايا لهذه الطريقة في العمل، قد يكون منها إغناء النقاش حول الثيمات عندما يشترك فيه مفكرون وازنون، فيصحح كل منهم رؤية الآخر ويثريها. وسوف يكون مثل هذا النقاش بمثابة مختبر لصحة الأفكار الفردية أو اعتلالها، وطريقة لتوليد الأفكار الجديدة. كما أن وجود اسمين أو ثلاثة معا على الموضوع يعطيه مزيدا من المصداقية والثقة لدى الجمهور أو لدى الكُتاب المفردين على حد سواء.
جرب البعض عندنا في كتابة رواية مشتركة أو قصيدة مشتركة – ولو أنني أشكك في جدوى هذه التجارب مع احتفاظ أصحابها بالحق في التجريب. وهناك الكتب البحثية المشتركة لدينا أيضا. ولكن ليس من المألوف رؤية مقالات من ألفين أو ثلاثة أو أربعة آلاف كلمة منشورة في مجلات غير محكمة أو صحف عربية. وربما يكون مثل ذلك موجودا، لكنّ ندرته تجعل من الصعب ملاحظته.
والأسباب؛ ربما لا تشجع المجلات والصحف عندنا هذا النوع المقالات. أو أنها ليست لدينا الكثير من المجلات الرصينة تصدرها مراكز فكرية محترفة من أجل اقتراح السياسات وتكوين الرأي العام. كما أن صناع القرار لدينا لا يشجعون – ولا يهتمون من الأساس- بعمل المفكرين وعلماء السياسة والاقتصاد وبجدوى الاسترشاد بأطروحاتهم لتصويب القرارات. وكل ذلك لا يشجع بدوره التفكير في ابتكار تنويعات على طرق إنتاج المعرفة من هذا النوع.
وربما هناك شيء يتعلق بالكُتاب أنفسهم. قد يأخذ التنافس الأسبقية هنا على التعاون والدعم المشترك. قد يرى أحد أنه إذا اشترك مع آخر في كتابة مقال مثلاً، فإنه الآخر (الأقل شهرة) ربما يستفيد من شهرته واسمه؛ أو أن مساهمته بالأفكار ربما تكون أكثر وأعمق، بينما لن يظهر ذلك في مقال مشترك. وربما، إذا كانت هناك مكافأة مادية عن المقال، لا يرغب الكاتب في تقاسمها مع آخرين. وربما ليس لأي مما ذكر، وإنما فقط أن هذا التقليد لم يُجرب في الثقافة العربية.
من المفهوم أن يكون حيز الإبداع الأدبي خاصا جدا، وينبغي أن يكون. لكن حيز الإنتاج الفكري والعلمي يمكن أن يتسع إلى التفاوض والجدل والاتفاق والاختلاف وإنتاج خلاصات مشتركة. وقد تكون كتابة المقالات من هذا في التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي مفيدة بشكل خاص لثراء المحتوى والارتقاء بمستواه ومنطقه. وسوف يتطلب مثل هذا النوع من الإنتاج من الأسماء وجود مراكز فكر جادة، تهتم بإصدار دوريات لهذا النوع الراقي من المقالات الفردية والمشتركة، التي لا تحتاج إلى توثيق المجلات المحكمة وشروطها، لكنها تنتمي إلى منطقة الإنتاج الفكري الأصيل والعميق، بما يفيد كلاً من منتجيها، وقرائها، وصناع القرار الذين تنعكس خياراتهم على المجتمعات ككل. وسوف يندرج هذا وذاك في باب التشاور والتعاون وملاحقة أهداف عليا، وهي أمور ما يزال علينا أن نطبّع معها.
الغد