مناخات ملبدة بفيروس «كورونا»
في الأسابيع المنصرفة ارتفع منسوب الكلام حول ما جرى من تغييرات في فضائنا السياسي : استقالة حكومة وتشكيل حكومة جديدة،حل مجلس النواب وانتخابات أفرزت مجلسا جديدا، أخبار كورونا والراحلين وموجات النعي والبحث عن أمل بـ»لقاح» قادم ..الخ، حاولت أن ابتعد قليلا عن المشهد، وقلت في نفسي : لماذا في هذا الوقت تحديدا لا أجرب حرية (الإنصات) - إن شئت - حرية الصمت، هذه التي يبدو أننا اليوم أحوج ما نكون إليها، لا باعتبارها فضيلة فقط، وإنما ضرورة لكي نشعر بعافيتنا النفسية، أو ربما لإرضاء ضمائرنا المتعبة من القلق.
بصراحة أعجبتني الفكرة أكثر، خاصة وأنني تناولتها في وقت مضى حين اكتشفت ( هل اكتشفت حقا..؟!) أن المطلوب منا أن نتكلم وان نصرخ لكي لا نفعل ولا نعمل، فالكلام يبرئنا أمام غيرنا بأننا قمنا بالواجب وزيادة، ويطمئن الآخرون بان هذا أقصى ما يمكن أن نقوم به، وبالتالي فان الكلام قد يكون دليلا على العجز فيما قد يكون الصمت (والإنصات) دليلين على الحيوية والعافية.
فيما مضى كنا نشكو من استقالة الناس من السياسة وعزوفهم عنها، لكننا اليوم - للأسف - نشعر أن السياسة استقالت من نفسها، وأن الفعل السياسي الذي كان يشدنا إليه أصبح على الهامش بانتظار من يتعرف عليه، أو هو - إن شئت الدقة - مجرد طلاء نزين به جدران نقاشاتنا وحواراتنا العامة.
ماذا يطلب المستمعون هذه الأيام؟ تحليلات سياسية عن التغييرات التي جرت والأخرى القادمة، المزيد من زوايا حظك اليوم وما تخبئه الأبراج للطامحين في مواقع جديدة، أخبار عاجلة عن احتقانات في مجتمعنا خلّفت وراءها مزيدا من الدمامل، تغييرات محتملة في بعض المؤسسات، بالمناسبة ربما سيكون من حظ بعض المتعطلين عن العمل أن يجدوا فرصة لمقعد شاغر، ليس بالضرورة أن يكونوا أبناء أو أحفادا لرؤساء ووزراء ومسؤولين...، قليل من المعرفة يكفي !
نحن سعداء حقا بافتتاح بازار الكلام، لمَ لا؟، حين ينهض احدنا من النوم يشعر أنه بحاجة لمزيد من الاسترخاء، لطابق من الثرثرة وفنجان قهوة سادة، لمشاجرة في الشارع يتفرج عليها ويقضي يومه وهو يفكر فيها او يتحدث عنها لزملائه في العمل، لحالة من السكون التي تعينه على الهروب من ضجيج المدن، والأولاد وهموم الدنيا ومفاجآتها.
وسط هذه المناخات الشتوية الملبدة بفيروس «كورونا» تبدو مبررات الصمت مقنعة، اقلها انها تريح النفس من جهد لا نتيجة له، وتضمن ألاّ أنام في المقبرة ولا تزعجني كوابيس الأموات، وأتفادى لغط التأويلات المغشوشة التي يمارسها النمامون -وما أكثرهم -، وأمارس هوايتي في متابعة المشهد من بعيد دون أن انخرط في التفاصيل، واترك لغيري من ( الجهابذة ) القيام بالدور الذي استقلت منه، ولو مؤقتا.
لست وحدي من اختار الصمت، فالسياسة أيضا تنازلت عن حقها في الكلام، هل كثير على السياسة أن تكون مثلنا؟ أن تستريح قليلا وتمارس هواية حلِّ الكلمات المتقاطعة، أن تلعب - كما كنا نفعل ونحن صغار - لعبة «الطماية»، أن تهرب إلى الحقول البعيدة لتخلو مع نفسها في زمن تراجعت فيه فرص الخلوات، أن تأخذ إجازة للاستجمام أو - إنْ تعذّر ذلك - حماما دافئا لتستعيد بعده بعض النشاط؟
ليس كثيرا أبدا... لقد تعبنا من ضجيج الفراغ.
الدستور