العزاء الافتراضي ونبل المشاعر
قبل سنتين قال واحد من الأصدقاء بأن ثقافتنا ثقافة موت، وليست أبداً ثقافة للحياة المزدهرة العامرة. نحن لطميون ندّابون بدليل أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي لا يصبّون تعليقاتهم بغزارة مثيرة لافتة للنظر إلا على منشورات النعي والمصائب. ثمة من لا يكتب حرفاً واحداً لأجل الحياة وجمالها، ولكنه لا يترك نعياً إلا ويسجّل بصمته عليه. الناس قد تمر بوردة مبهجة أو بقصيدة باذخة الجمال أو بمقالة قوية دون أن تلفتهم أو تثير فيهم شيئاً.
تذكرت كلام صديقي هذا يوم أمس حين قرأت منشوراً يدعو رواد مواقع التواصل أن يخففوا من نشر نعي الأموات في هذه الأيام العصيبة. فالأمر بات مثيراً للهلع والخوف والسوداوية وبات يشيع طاقة سلبية تقصم ظهر الحياة والمجتمع وتضعفه. وطالب أن ينحصر النعي بأقارب الدرجة الأولى فقط كي لا تتحول حياتنا إلى سواد.
ربما يكون صديقي محقاً بعض الشيء فيما ذهب إليه من تحليل لثقافتنا المجتمعية. لكنه نسي أن بعض كلمات صغيرة تقال في مثل هذه المواقف قد تعني حياة بكامل أركانها ومداراتها وكواكبها. فالموت موتان في زمن الكورونا، بل هو سبع ميتات أو أكثر تتراكب فوق بعضها البعض وتتداخل وتتفاقم وتتشابك وتنشب أظفارها بتلابيب أشجاننا. لكن هذا الموت مع كل أسف قد غدا أسهل من كتابة منشور صغير على فيسبوك أو تويتر أو رسالة واتساب.
ثمة من لم نستطع أن نصدق موتهم ورحيلهم؛ لأننا لم نشيعهم ولم نحزن عليهم كما ينبغي. ثمة من لم نقدر على إلقاء نظرة وداع عليهم. وثمة من لم نستطع أن نقف معهم، ونسند حزنهم ونحضن وجعهم ونمسح دموعهم الحرى ونبكي معهم. يااااااااااه كم أوجعتنا هذه الكورونا.
في مقابل هذا البعد، وهذا العزاء الافتراضي يشتكي أحدهم بعد موت والده، مؤكداً أن فتح بيت للعزاء أرحم وأقل ضرراً من هذا الذي يحدث بعيداً عن قدرتنا على تقدير خطورة المخالطات ونشر الوباء. ويخبرنا هذا المكلوم أن الناس لم تتركهم أبداً. في أي ساعة من ساعات النهار والليل، رغم الدعوات المتتالية أن العزاء يكتفى به هاتفياً أو على مواقع التواصل. سيما أن البعض يعرفون أنهم مصابون ومع هذا يجيئون البيوت دون أدنى شعور بأنهم قد يقتلون الآخرين.
أشعر بنبل وصدق مشاعر المكلومين في هذه الأوقات العصيبة، وأحسُّ بدموعهم من خلال الكلمات وأشعر بثكلهم القوي وكسرتهم. ولا أستهجن أو أستغرب من بقية الناس أن تقف معهم حتى ولو افتراضيا.
الدستور