سيدة الموسم
في موروثنا الشعبي أن المربعانية أما غرق أو عرق. بمعنى إما أن تكون سيولاً تغرق، أو شمساً تحرق. ويوم أمس كانت بداية هذه الأيام الأربعين من فصل الشتاء بشمس واسعة ستنبت العشب الغريب، وتلون أديم الأرض بخضار بهي، يجعلنا نتفاءل بمطر أبهى يخصّب موسمنا ويباركه.
الجميل في شمس هذه الأيام أنها ستعلن عن ولادة سيدة الموسم: الخبيزة. هذه النبة المشاع التي تهل كباكورة لعطاء السماء. هي شهوة الأغنياء، ولكنها نبات الفقراء، وملذهم وربيعُ بطونهم. تنبتُ حين يكونُ كلُّ شيء قليلاً؛ فتسند حياتهم وتقيم أودهم. وما زالوا يمتدحونها في حديثهم المتوارث بين الأجيال: الراية البيضا للخبيزة والعشبة البدرية. أي المجدُ لكلِّ من يأتي مبكراً من الأعشاب.
وما زال أجدادنا يقولون: (خُبيزة ولبن يكثر، افشر يا الغلا افشر). أي أن نزولها مع موسم إدرار الحليب؛ سجعل الناس بعيدين عن لهيب أسعار السوق وغلاء اسعاره. وسيبقى أن من الناس، من يركضُ ويركضُ مهرولاً خلف رغيف هارب بسرعة الضوء، والعشاء خبيزة في أحسن أحواله.
ستجدونها شامخة عنفوانية قرب (المراح)، أي مرابض الأغنام القديمة، حيث تكون الأرض مخصّبة. ولكنها في هذا المكان تحديداً تكون سريعة الرحيل مثل العمر. ولهذا كان بعض أهلنا يصفون الحياة وقصرها قائلين: (العمر ولّى وراحِ مثل عشب المراحِ).
لا يقنعني قولُ من يرون أنّها أخذت اسمها من الخبز، وكأنها كانت بديلاً عنه. فمن ذا الذي يأكلها بدونه؟. ولكن يعجبني أنها نالت الاسم من رغيف خبز الطابون لأن ورقها بوجهين مختلفين كوجهه: وجهٌ مُقمر على الرّضف (الحجارة) والآخر أملس.
لا تحتملُ النارَ كثيراً، كي تحافظ على لونها البهي. ومن الناس من لا يأكلها بعروقها، بل يأكل ورقها فقط. والحوس أشهر طبخاتها إذ تقلى في طنجرة مغطاة بزيت الزيتون والبصل، وتقدم مع الليمون. وهناك طبق كان يعدُّ أهلنا قديما يسمى المغمومة إذ تطبخ مع البرغل الناعم. والبحبوثة، حين تطبخ مع مفتول الطحين. وثمة من صار يأكلها مع الرز.
كمياتها تتناقصُ بالطبخ بشكلٍّ عجيب. فقد يكون لديك كوم كبير منها، ولا تنال إلا صحناً أو صحنين. ولهذا قال المثل ناصحة الزوجة: لا توري جوزك طبيخ الخُضر، ولا لحم البَقر. فالخُضار ومنها الخُبيزة والسبانخ والحميض، تنكَمِشَ بالطبخ كلحم البقر. وكل موسم وأنتم بخير
لم أكن أحبُّ الخبيزةَ أبداً، وبقيت صامدا على صلابة موقفي حتى أسرتني زهرتها البديعة ذات الربيع بعيد. من ذلك الوقت وقعت بحبها وبت أنتظرها على قارعة الشتاء. وطاب موسمكم بخير وفير.
الدستور