اخلعوا «الكمامات» لدقائق فقط ..!
في مرات كثيرة افتقدنا « حاسة « الشم، فداهمتنا الأزمات واختلطت لدينا الأوراق، ليس لأننا نعاني من مشكلات مزمنة في التنفس، ولا لأننا الآن نواجه «بالكمامات « كورونا ، وإنما لان افتقادنا كان نتيجة لإحساس غريب امتزجت فيه الاستهانة بالاستعلاء، والاستعجال بغياب الرؤية والتخطيط .
حين ندقق بما يجري في مطابخنا السياسية وغرفنا العامة، وربما في شوارعنا أيضا نكتشف ان هنالك أنواعا شتى من الروائح التي تزكم أنوفنا : خذ مثلا رائحة الظلم التي تخرج من بين صرخات الجائعين والمعوزين والفقراء، او من تحت أنّات المرضى الذين يبحثون عن علاج ولا يجدونه، او من خلف صمت المهمشين الذين ضلت العدالة عن الوصول إليهم، خذ مثلا رائحة الكراهية التي بدأت تتسلسل الى أعماق مجتمعنا، خذ أيضا رائحة « الاستفزاز « التي تثيرها مقررات لم تدرس كما يجب، خذ رابعا رائحة اليأس والإحباط والخوف من القادم التي خيمت على مجتمع مازال مصرا على الصمود ومواجهة نيران الأحقاد التي اشتعلت حوله في كل مكان .
هذه الروائح لا تختلف كثيرا عن رائحة «الحريق» التي يشتمها الخبير حين يعاين موقعا «مفخخا» او «مصنعا» قابلا للاشتعال ، لكن المفارقة ان أنوف البعض لا زالت مسدودة لا تريد استقبالها، ومع ذلك ارجو ان ننتبه، فوراء رائحة الظلم واليأس والغضب قصص مفزعة، وأخبار ومفاجآت صادمة، نخاف على بلدنا منها، ويدفعنا إحساسنا بالخوف للاستنفار من اجل اكتشافها ومحاصرتها قبل ان تتمدد او ان تتحول الى مغامرات لا نريدها.
نريد من السياسي ان يستحضر « حاسة الشم « حين يفكر باتخاذ اي قرار يخص حياة الناس، ونريد من الديني أن يستدعي هذه الحاسة الضرورية حين يخاطب جمهوره من الشباب الباحثين عن الامل في الدينا والآخرة على حد سواء، ونريد من الإعلامي ان « يشم « ما وراء الخبر لكي يتصالح مع ضميره وهو يمارس مهنته المقدسة.
وكما ان في الطب فصولا خاصة تتعلق باجتماع حاسة الشم مع الذوق، ووصفات لمعالجة الذين يعانون من فقدانهما، فإن في السياسة وفي الاقتصاد، وايضا في الدين، فصولا شبيهة، سواء باسم التوقعات او باسم الاستباقات، او باسم الخطط الإستراتيجية، وهي كلها مثل الأنوف، التي تشتم ما سيكون او لترتيب ما يمكن ان نفعل وتأثيث ما نريد، دون ان نفاجأ بأي حدث متوقع او غير متوقع.
تاريخيا ، لم تحظ حاسة الشم بالاهتمام لدى الفلاسفة والمؤرخين، وحتى العلماء، كما حظيت به الحواس الأخرى كالسمع والبصر، لكنني وجدت كتابا بعنوان « الرائحة « لمؤلف هولندي ( اسمه بيت فيرون ) يتحدث فيه باستفاضة علمية وأدبية عن حاسة « الشم « ويعتبرها فاعلا أساسيا في معظم العمليات النفسية والسلوكية التي يمارسها الإنسان ( والكائن الحي عموما )، ومن ابرز هذه العمليات « الإنذار المبكر حين تتعرض الحياة للخطر».
استوقفتني عبارة الرجل الأخيرة، وسألت نفسي : وهل الخطر بعيد عنا؟ أبدا، فهو يحاصرنا من كل اتجاه، والأخطر من الخطر نفسه ان لا تكون لدينا حاسة شم نافذة تستطيع ان تكتشفه قبل ان يقع.
مطلوب من المواطن، ومن المسؤول أيضا، ان ينهض على الفور لتنشيط هذه « الخدمة « التي وهبها لنا الخالق عز وجل، او خلع الكمامة التي ألجأنا إليها «كورونا « ولو لدقائق قليلة فقط.
الدستور