متقدون حدَّ التوهّج
عندما يختلط نوار اللوز بعبق الشعر لا بدَّ ويكون لدينا بوح حاشد ماجد. وحين تلتقي الأم بزغرودة النصر وكرامة الحياة ونيروزها؛ سيضيق اليوم حتى لو كان شهرا جامعاً.
كان يوما محتشدا حاشداً امتزج فيه بوحُ القصيدة بباكورة الربيعِ، وعبق الأمهات الخالد منذ تراب آدم الأول. هو يومٌ تماهى فيه الدحنونُ بدماء شهداء يسجلوا في صفحات المجد سفرَ بطولة وخلودا.
اليوم كان ذكرى عريس امتزجت فيه قبلتان. قبلةٌ يتركها جنديٌّ على يد أمه حين يهرعُ للمعسكر قرب الحدود، وقبلةٌ تطبعُها الأمُ على جبينِ الشهيدِ، حين يُزف محفوفاً بالزغاريد. فهكذا نحن، قوم يودِّعونَ شهداءهم بالزغاريد، وبوعدِ الوفاء، وعهدِ البقاء على قيد عزم وفداء.
في الشارع الرئيس من بلدة الكرامة الوادعة ثمة مئذنةٌ ما زالت تشمخُ في فضاء الحق نبراساً يهدي العابرين. مئذنة ببصمات الرصاص ووقعه وهي الشاهدة بتكبيرها وتثويبها في فجر ذلك النهار، عندما تصدى جنودنا البواسل للصهاينة الأبواش بكل إقدام.
المئذنة والمعركة والدحنون، كلها ستبقى شواهدَ لأبداً الدهر، أننا كسرنا أفقَ توقع العالم، من أن جيش العدو الإسرائيلي، جيش لا يُقهر، ولكننا (القهرناه والهزمناه)، وسطرنا قصيدة الكرامة، أغنية بفم التاريخ وسمعه.
وما زال شجر الدفلى على النهر يغني بعض حكايتنا، فنحن تطربنا الحياة، وكل كريم طروب، فنغني ونزهر زهراً يميس مع خفقات النهر، كنوار الدفلى وأبهى، ولكننا إن جد الجدُ، وحان الحينُ، نصير مثل الدفلى، لا حيَّ يقدر أن يذوقنا أو يلوكنا، أو يقرب علقم بأسنا وسطوتنا، فالويل لمن يدنو حمانا.
وما زال نصب الجندي المجهول يحمل بندقيته، ويشير بيده إلى أرضِنا العزيزة غربَ النهر. ما زال هذا الجندي يخبرنا كيف امتزجت حكايتان، وامتزج الدمان الأردني والفلسطيني، فكانا كما كانا، دماً واحداً، وقلباً واحداً، كالنهر بضفتيه.
كان يوم عزٍّ سجلنا فيه ملحمة ستبقى ذاكرة للسؤدد والفخار أبد الآبدين. حين جرعنا عدواً لا يعرف إلا القوة معنى ولغة، جرعناه درساً لن ينسى. فنحن أصحاب حق وأرض ورسالة، والجمر وإن علاه بعض الرماد، سيتقد ولو بعد حين. فنحن متقدون حد التوهج.
ما أصعب أن تحتشد ليوم حاشد بعبق الشعر، والكرامة، وطيب الأمهات، والدحنون، فلا قولَ منك سيبلغُ شاو قطرة دم شهيد أريقت في أرضنا، فبزغت مكانها دحنونة بعد ربيع. ولكن، حسبي أني قلت قلبي، ولا شيء إلا قلبي.
الدستور