عن تحولات اليسار واليساريين
ذات يوم، قبل بضع سنوات، جاءتني شابة أمريكية، قدّمت نفسها كطالبة دكتوراه، في جامعة نيويورك على ما أظن، وتبحث في مصائر اليسار الفلسطيني وتحولاته، من ضمن مقاربة أشمل، عن تحولات اليسار العربي...فاجأني البحث والباحثة على حد سواء، ولقد عكفت على استجماع ما بحوزتي من معطيات وقراءات، أقله للإجابة عن أسئلتها، دع عنك، أن للأمر بعداً «شخصياً» طاغياً.
تذكرت هذه الواقعة، وأنا أقرأ سجالات، أقرب لـ»التنابز بالألقاب»، تدور حول الموضوع وتلامسه، من دون الدخول في صلبه، وإليكم ما توصلت إليه، قبل سنوات، مع الباحثة الشابة:
خسر اليسار العربي، معركته مع «الإمبريالية والصهيونية والرجعية»، وفقد «صديقه الصدوق» في «وطن الاشتراكية الأول»، لم يعد فاعلاً مهماً، وتوقفت حرب الإقصاء والاستئصال التي تعرض لها في النصف الثاني من القرن الفائت، على أنه سيصطدم ومن دون استعداد، مع قوة ناهضة جديدة، تحل محلّه، وتملأ فراغه، إنها «الإسلام السياسي» بمدارسه ومذاهبه المختلفة...لذلك رأينا هذا اليسار يذهب في اتجاهات شتى:
فريق أول؛ غلّب البعد الفكري–الثقافي–الاجتماعي، في مقاربته، فعمد نكاية بالإسلام السياسي، «الرجعي» و»المتخلف» و»الماضوي»، وفقاً لمفرداته، إلى الالتحاق بركب أنظمة الفساد والاستبداد، رأينا ذلك تقريباً في دول وتجارب شتى، شيوعيون ويساريون جدد، وينضون تحت لواء سلطات تعسفية، وأخرى أقل تعسفاً، دخل هذا الفريق في حرب مع «الإسلاميين»، ولم يتردد في تقديم «مهاراته» و»خبراته» ذوداً عن أنظمة وحكومات، وجدت فيه، معيناً لا ينضب من «الكفاءات» و»المهارات».
فريق ثانٍ؛ غلّب عداءه للإمبريالية والصهيونية، والرجعيات المتواطئة والعميلة، وفقاً لخطابه، فآثر الانضواء تحت رايات: «الإسلام المسلح» وخلفها، تجلى ذلك بشكل خاص في لبنان والعراق وفلسطين، ورأينا علاقات «ذيلية» أقامتها فصائل يسارية مع «الإسلام المقاوم»، ورأينا عناصر وقيادات، تقفز زراقات ووحدانا من سفنها الحمراء إلى سفن الإسلاميين الخضراء والسوداء.
فريق ثالث؛ عمل بالمثل الذي يتعذر إيراده كاملاً: «نكاية بالطهارة...»، فبعد أن تبدى له فشل المعسكر الاشتراكي في المباراة مع الغرب، اقتصادياً وفكرياً، وبعد أن سئم «صرامة الحزب اللينيني ومركزيته غير الديمقراطية»، انتقال إلى مدرسة ليبرالية، ونيو ليبرالية، في الاقتصاد، وأخذ يحمل على «مفهوم الحزب» والتنظيم النقابي، واقتصاد السوق الاجتماعية وشبكة الأمان الاجتماعية، وكثير من هؤلاء، تحول إلى الليبرالية الاقتصادية دون السياسية.
فريق رابع؛ وعملاً بنظرية «مناعة القطيع»، قبل كورونا، آثر العودة إلى رحم الطوائف والمذاهب والأقوام، فاصطفوا خلف أمرائها وقادتها، ويوفر لبنان والعراق، نماذج كبيرة لهذه التحولات/ الانهيارات، لرموز وقيادات يسارية، تحولت إلى «تروس» في مكائن الطوائف والمذاهب والأقوام.
فريق خامس؛ كان انتقاله «منطقياً» صوب صيغ ومدارس أقرب لهويته «اليسارية»، ديمقراطية – اجتماعية، متخففة من ديكتاتورية البروليتارية ونظرية الحزب الحديدي و»هيئة أركان الطبقة العاملة» ومفهوم الدولة كجهاز لقمع الطبقة العاملة...تيارات أقرب للاشتراكية الدولية، والديمقراطية الاجتماعية، و»يسار الوسط»، وغير ذلك من مفاهيم لم تكن يوماً من ضمن قاموس كثير من أحزاب اليسار.
فريق سادس؛ ظل على «مبدئيته»، أو قُل، «دوغمائيته»، لم يهضم الدروس العميقة لانهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي، وبات أقرب إلى «سلفية ماركسية»، لا وظيفة لها سوى التغني بعصر «صدر الإسلام»: سنوات لينين وأحياناً ستالين، وتتحدث عن فشل التجربة وليس النظرية، واختلال اليساريين وليس الفكرة اليسارية، والتبشير بالعودة إلى «اليسار الصحيح» و»الماركسية هي الحل»...هذه هو الفريق الأقل عدداً والأضعف تأثيراً، لكنه موجود ومستمر، مستلهماً قول الإمام علي بن أبي طالب، كما في حال «الإسلام السياسي الشيعي»: لا تستوحشوا طريق الحق، لقلة السائرين عليه.
الدستور