شاي الرعيان
في الطفولة كنت مغرما بالشاي، وافضل «الشاي الفرط»، وشاي الكياس المداليات منبوذا، ويعبر عن ترف بالاستهلاك، ولا يعبئ الرأس والمزاج غير «شاي الفرط»، وكلما اشتد سواد الشاي فهو تعبير عن جودته وطيب مذاقه.
وطبعا، الشاي فوق اعتباره كيفا ومزاجا صباحيا، ويبدأ مع الصحو من النوم، فهو ملازم للطعام.. ولاي وجبة اكل يتم تناولها.. الشاي للغماس مع الخبز والكعك والقرشلة، وشاي من كسرة جميد «مزة»، وشاي مع زعتر وسمنة وجبنة، وشاي بعد الغداء وقبل العشاء وبعد العشاء.
كنت مستهلكا للشاي، وفي بعض الايام اشرب ابريقين واكثر، ولا تفارق كاسة الشاي يدي، وكنت افضل الشاي على القهوة العربية «السادة» والتركية.
وافضل واحب الشاي الحلو وسكر زائد. وما كنا نعرف ان السكر يمكن ان يضاف بمعلقة خارجية بعد ان يغلي الشاي ويقدم على الطاولة. فالسكر يضاف للشاي وهو يغلي النار.
وفي نظرية الشاي وجهات نظر مختلفة ومرجعيات متباينة.. ما بين اضافة الشاي والسكر اثناء غليان الماء، وقبل السكب، ووجهة اخرى، تصر على ان الشاي والسكر يضافان من بداية غلي الماء على النار.
مدارس وطرق في اعداد الشاي، ولكل طريقة نكهة وطعم ومذاق مختلف. واطيب نكهات الشاي غليه على نار حطب. وكنا مع الغنم لا نتوقف عن غلي الشاي، وبريق وراء الثاني، والنار لا تنفطىء، ولربما هي المتعة الوحيدة لراعي الغنم «شرب الشاي».
شرب الشاي صار فيما بعد مرتبطا بالتدخين. وعندما اقتحم الدخان حياتي، وانضممت الى نادي المدخنين، وذلك كان قبل الصف الثامن، وصار المزاج لا يتعدل الا بسيجارة وكاسة شاي ثقيلة.
من لم يشرب شاي «النار والحطب» فهو محروم من الشاي، ولا يعرف طعم فمه. «شاي الرعيان» لا يضاهيه منافس. وسافرت ولفيت دولا كثيرة في العالم من اوروبا الى اسيا وافريقيا، وكل بلد يحتفل في طقوس الشاي على طريقته، ويتفنن في الاعداد والتقديم، وفي بلدان اسيوية وافريقية الشاي مشروب شعبي واجتماعي مقدس، ومقرون بطقوس وفلكور، وعادات وتقاليد.
«شاي الرعيان» خسرانه وفقدانه اليوم.. وبعد تلك السنوات، وانقطاعي عن التدخين، وتحذيرات الاطباء من الدهون الثلاثية والكوليسترول قطعت تناول الشاي.
بعد الانتقال من حقبة الرعي الى التعليم الجامعي والانتقال الى المدينة.. علاقتي مع الشاي انحصرت، ودخلت القهوة على الخط، ولم اكن من مفضليها، ولم استسغ القهوة التركية، ورغم المرويات الفنتازية عن اقترانها بالذكاء والتفكير والعبقرية، وانها تمنح طاقة وتمييزا في التفكير، وان شرب القهوة من صور وتعبيرات الثقافة والفكر والابداع.
وحقيقة انا اكره القهوة.. واكثر ما مزاجي يهف على كاسة «شاي نار».. وشاي الرعيان. وعندما اشتم رائحة النار اتذكر طعم الشاي، واستلذ بتحسر في ذكريات الرعيان والشاي والنار.
لربما ان مزاجي من بعد المدرسة والجامعة قد تغيير وتبدل وتحول.. فكما اصاب افكارنا وثقافتنا وحياتنا من تحولات وانقلابات كبرى. خسرنا، بل نسينا «شاي الرعيان» واستبدل بمشاريب اخرى ساخنة وباردة.
لا ادرى كيف ساعود الى»شاي الرعيان». والعودة بلا شك حتمية.. ولربما لا اعثر على الموقد والنار والبريق، ولا اعثر على حطب، ولا شعلة توقد النار.. ولكني ساعود، وساحاول، ولاصنع من ابريق الشاي صرخة لحلم مفقود وضائع، وانام في بطن الجبال والوديان، والصحراء، ولاسمع صوت السماء، وانين الجنوب وصدى مواجع التهميش والنسيان.. فلا بد ان اعود!.
الدستور