الكون لم يخلق للمبدع وحده
لماذا خَلّدَت الحياة شعراء وخَذَلت غيرهم. لماذا ترك شعراء القصيدة الواحدة، و»روائيو الواحِدة» أحياناً، أثراً في ذاكرة أجيال، أكثر من آخرين صدرت لهم عشر مجموعات شعرية، أو عشر روايات. لماذا ترك أدباء لم يحالفهم قدرهم بالعيش طويلاً، أثراً تخلّد، واندثر اسم غيرهم رغم العمر الطويل.
رحل شاعر الحب والحياة والثورة والتجديد، أبو القاسم الشابيّ، وهو في الخامسة والعشرين. لم يتم استضافته في برامج تلفزيونية، ولم يُغرّد على «تويتر»، ولم يمتلك حساباً على «فيسبوك». لا أظن صبياً في العالم العربي من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، لا يحفظ: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر»، على أن الشابيّ رحل عام 1934، وولد في قرية منسيّة في ولاية «توزر» التونسية هي «الشابيّة».
ومن منّا لا يحفظ عن ظهر قلب: «لا تصالح ولو منحوك الذهب، أتُرى حين أفقأُ عينيكَ، وأثبِّت جوهرتينِ مكانهما، هل ترى؟، هي أشياء لا تُشترى». ذلك أمل دُنقُل الذي رحل في الثامنة والأربعين على سرير من أسرّة المعهد القومي للأورام، وزوجته عبلة الرويني إلى جانبه على مدى أربع سنوات، كتب خلالها مجموعته «أوراق الغرفة 8»، وقصيدة «السرير» التي عبرت في آخر أيامه عن معاناته.
طُرفة بن العبد، عاش 26 عاماً فقط. من لا يذكر: «لخولة أطلالٍ ببرقة ثَهمَدِ، تلوحُ كباقي الوجهِ في ظاهر اليدِ». قتلته قصيدته في هجاء عمرو بن هند. لم يمت كله. بقي الأثر، وسيبقى طُرفة من كبار شعراء العرب.
والأمثلة كثيرة، قبل الإسلام وبعده، من امرؤ القيس، إلى رياض صالح الحسين، وقد رحل وهو في الثامنة والعشرين بعد أن أصدر مجموعة بعنوان: «خراب الدورة الدموية»، فخربت الدورة بالفعل، ومات الشاعر. وفي الغرب رحل الشاعر الإنجليزي «جون كيتس» أحد شعراء الرومانسية في إنجلترا بمرض السل وهو في السادسة والعشرين، وعلى الرغم من أن شعره لم ير النور إلا قبل أربع سنوات على وفاته، وأن نقاد عصره لم يلتفتوا إليه، إلا أن أغنياته القصيرة، أصبحت اليوم من أكثر القصائد انتشاراً، ووصفه الناقد الإنجليزي «ماثيو أرنولد» بأنه مع شكسبير في الصف الأول من الشعراء.
الشاعر والروائي ألكسندر بوشكين، صاحب القصيدة الوطنية الملحمية «بولتافا»، والذي يعدّه البعض مؤسس الأدب الروسي، والإسباني فيديريكو لوركا، صاحب ديوان «شاعر في نيويورك»، رحلا في نفس عمر رحيل السيّاب؛ الثامنة والثلاثين، فيما غادر الإنجليزي «جورج بايرون» - وهو من رواد الشعر الرومانسي أيضاً - عن عمر يناهز السادسة والثلاثين. يومها قال «فيكتور هيغو»، أنه عندما أعلنوا خبر وفاة «بايرون»، شعرنا «وكأنهم نزعوا جانباً من مستقبلنا»، فيما قال «فيودور ديستوفسكي» صاحب «الجريمة والعقاب» والذي قضى لاحقاً بمرض الصرع، أن «البايرونية تشكل ضرورة لحياة الشعب الأوروبي، وربما لحياة الإنسانية جمعاء».
لِمَ يرحلون مبكراً؟!. السؤال سيظل مطروحاً، وتتعدد الإجابات، وتختلف الاجتهادات، ويبدو أن المبدع أحياناً يصل إلى مرحلة يبرُم فيها من الحياة، كما بَرمت الحياة بعدد منهم، فَلَفَظَتهُم، وطلّقَتهُم، أو طلّقوها. يصلون إلى لحظة لا يطيقون فيها الحياة، تماماً كما يرى رجل زوجته الجميلة التي كان يعشقها، شيطاناً في لحظة ما، ليس لأنها فقدت جمالها، ولكن لأنه فقد روحه التي تربطه فيها، روحاً كانت تسكنه، وتجعل نفسه تسكن إليها.
يبدو أن الحياة نفسها، تضطر أحياناً إلى عزل بعض الشكائين عن وجهها. تقول للواحد منهم: «اغرُب عن وجهي»، تتخلص منه، ومن تبرّمه. تضجر من ضجره، وتقلب له ظهر المِجَن. وقد يلجأ المبدع عندما يقل إنتاجه إلى الموت، لأنه ارتكب في الأساس خطأ جسيماً، عندما ربط روحه بإبداعاته، وفقد العلاقة الروحية بخالقه. توقفت إبداعاته، فتوقفت معها حياته، وصل إلى طريق مسدود، ولكن الكون لم يخلق للمبدع وحده، ليس له، وليس لجيله دون أجيال غيره.
ما يحدث للمبدع أحياناً، يماثل ما يحدث للمليونير الذي يعلن إفلاسه، ويعود فقيراً، فينتحر، أو يموت بسكتة قلبية، أو غير ذلك من أسباب، لأنه ربط روحه بماله. فقد المال، وفقد معه الروح، فغادر الحياة.
مأساة بعض المبدعين ظنهم أنهم وحدهم، وأنهم الأول، وأنهم الآخر، فيما الحياة مستمرة بهم وبدونهم، معهم أو بغيرهم، وليسوا وحدهم من يعظم قيم جمال القدود، وحلاوة الخدود، وتراث الجدود، وليسوا هم من يقرر الرحيل أو الخلود. الله وحده صاحب القرار. وحتى إبداعاتهم، لا يملكون أحقية تخليدها. الأجيال هي التي تقررالاحتفاظ بالشابي، وهجر النابي، وهي التي تقرر حفظ أو لفظ إبداعات المبدعين في الذاكرة المستقبلية.
نغرق، فنرفع أيدينا إلى السماء. تماماً كالبحارة عندما تهاجمهم الأمواج كأفعى بيضاء. يستيغيثون. يصرخون. يبكون. يبتهلون. لا يجب عليهم إذا نجوا، أن يفقدوا صلتهم بخالقهم، وإلا فإنهم سيفقدون في المرة القادمة أرواحهم. «من يملك الإيمان، تظل روحه منتعشة، فتواصل المسير. لا ترحل مبكراً. الإيمان يطيل العمر، وليس الإبداع». قال لي الشاعر حيدر محمود.
لا تلغي العلاقة بينك وبين ربك، فمهما تعاظمت الكروب، وكبُرت الهموم، وصَعُبت الدروب، سيمتلك المبدع القدرة على الاحتمال والصبر، طالما ظلت الصلة الروحية السامية التي تجعله على يقين، أن مصيره ليس بيده، وأن روحه ملك خالقه، وأن حياته ليست مرتبطة بإبداعاته، وإنما بإبداعات خالقه، وأنه الأخير وليس الآخِر.
الدستور