المرأة عين الحياة
«المرأة سُرّة الكون ومسرّته»، العبارة الأولى في رواية، و»الوطن سُرّة الكون ودُرّتُه» كانت الأخيرة. الوطن امرأة، والمرأة وطن. يبدو أنني خالفت عن غير قصد حنّا مينا، رأى في البحر امرأة، وفي المرأة بحر، لكن مشتركا يقول إن الحكايات كلها مبللة بعطر النساء، وماء البحر، وزبدِه، وأمواجه، وأن المرأة حاضرة على وجه البني، كما في حضن الأزرق. يبدو أنها سفيرة سلام إلى الماء، وربما يكون الرجل صفير الرياح. المرأة رسولة الأرض إلى شعوب ثانية في موانئ بعيدة، وغيرها من موانئ دانية، طبيبة تحمل دواء لأصحاب آلآم وآثام. يبدو أنها مصدر إلهام، وأنها طير حمام، وهمزة وصل بين الأرض والسماء، وإلا فلماذا اختار مينا، لو قُدِّر له أن يضع شاهداً على قبره، أن يكتب: «البحر، المرأة».
يبدو أن المرأة شراع. ربما يكون الرجل السفينة، والبحر واو عطف بين تراب وماء، وبين عاشق ومعشوق، وعنق امرأة ومحارة. المرأة لؤلؤة، واللؤلوة امرأة. «عين الحياة» اسمُ أغلى لآليء البحر، والبحر بلا امرإة، كعين بلا بؤبؤ. وإلا لما كانت «أفروديت»، آلهة ذلك البحر وحاميته، لتخرج على صدفة من زبده. اللؤلؤة أنثى، والمحارة أنثى، والموجة أنثى، والرجل قد يكون هو الميناء.
مقاهي الشواطئ، نقطة التلاقي بين البحر والأرض، وبين المرأة والرجل. مقاه تملك الحواس، يعرف أصحابها مسالك طريق البحار، وزواريب المدن العتيقة. هناك على شاطئ البحر، وقف الأهالي يودعون البحّارة، وهم يهمون بالصعود على ظهر سفينة مدبّبة في رحلة غوص إلى قاع البحر. لم تكن قد تشكلت للمدن قيعان. غادر الرحالة يحملون ما أعدته لهم النساء من طعام.
غادر الموكب، ولم يبق على مقهى الشاطيء، إلا صبيان وكبار سن من رجال كانوا قباطنة يوماً ما. إنهم يتمنون العودة إلى البحر، على متن مركب جديد، كما تمنى البحار محمد الطروسي في «الشراع والعاصفة»، بعد أن فقد مركبه إثر عاصفة هوجاء، فافتتح مقهى على شاطيء بحر، علّه يستطيع يوماً شراء مركب جديد، يعيده إلى حضن عاصفة، تعيد له عاطفة، وذكريات ماضٍ مع معشوقة، عبرت في لحظة خاطفة.
تلك هي الحياة، تتشابه اليابسة، كما تتشابه البحار، وتتشابه المقاهي، والوجوه، والحكايات، والأشجار والأمصار، كل شيء يمكن أن يتشابه، وأن يأتلِف، طالما أن المرأة ظلت القاسم الأعظم في مشاهد الحياة المختلفة.
ربما تكون المرأة قارب نجاة أيضاً. صارية، غمامة بيضاء حانية. ربما تكون قاسية، قسوتها لا تطول، سرعان ما ترى عطاءها، مختزناً دافئاً، كزيتٍ في خابية. المرأة وطن، بحر، شاي مخدّر، شراع، بوصلة، شاطيء، أو سارية، أو قطعة من زلابية، والبحر بحر، أحمر، أو أسود، أو أبيض، لكن الوطن هو الوطن، غير قابل للتخييل، ولا التلوين، وغير قابل للسفر.
الدستور