البكاء والرثاء لا يكفيان
لم أستطع أن أتمالك نفسي وأنا أتحدث بالأمس إلى «أنس»، شقيق الشهيد محمد خضيرات، الشقيق الأكبر «أبو شهم»، فَقَد برصاص الغدر نصفه الآخر، ورحل «أبو نغم»، تاركاً خلفه حسرة في قلب أم، وأب، وشقيق، وثلاث شقيقات كريمات، واحدة تكبره سناً، وشقيقتين تصغرانه، وزوجة كريمة ودّعته عندما لبى نداء الواجب صباح الخميس الماضي، فودّعها، وهبط إلى الطابق الأول من البيت للسلام على أمه، وكان ذلك الخروج الأخير.
ظل متواصلاً حتى بعد منتصف الليل مع أم «نغم»، نغم ابنة الخامسة، وأم «ليان»، وليان ابنة الثالثة، وطلب منها أن تدعو له ورفاقه من الأبطال بالنصر، دون الخوض في التفاصيل، لم يكن هنالك بعد ذلك وقت يسمح بالتواصل، فقد بدأ الاشتباك، ودفع الأبطال الشر عن أرضهم، وافتدوا تراب وطنهم بأرواحهم، بالفعل لا بالقول فقط، وكان النصر، وارتفع محمد خضيرات ابن جامعة اليرموك، أول الشهداء، لم يكن قَسَم خريج الدراسات الإسلامية في «اليرموك»، إلا مشروع شهادة من أجل الوطن، رفع صوته يوم تخرجه، أن على اليرموك أقسمنا اليمينا، بأن نبقى له الحصن الحصينا، بر البطل بقسمه، تسلّم الوالد شهادة استشهاد ولده البطل، وتسلم العلم، ولكن الفقد شديد الألم.
ولم أتمالك نفسي وأنا أتحدث إلى خال الشهيد الدكتور محمود خضيرات، أغلقت سماعة الهاتف، وأجهشت في البكاء، ثم تمالكت نفسي ثانية، لأقدم العزاء لأخي المكلوم مسلّم المشاقبة، أصغر الأشقاء الثلاثة، الشهيد محمد هو الأكبر، وسالم هو واسطة العقد، وكما ودع الشهيد خضيرات زوجته ووالدته، كذلك فعل الشهيد محمد المشاقبة، والد «يقين»، الصبية ابنة الخامسة عشرة، و»الياس»، ابن الثالثة عشرة، و»ميار» ابنة التاسعة، ودّعهم جميعاً، وكان ذلك الوداع الأخير.
وسأقول هنا ما يجب أن أقوله، وفاء لدم الشهداء، وإكراماً لتضحياتهم، وتعظيماً لمفاهيم الأخلاق الأردنية السامية في التعاضد والشهامة، فالدولة لم ولن تقصر في واجب تجاه شهداء الوطن من أبناء الجيش العربي، والقوات المسلحة الأردنية الباسلة، وفية منذ تأسيسها لشهداء الوطن، والعناية بأسرهم ورعايتها، لكن هذا لا يكفي، ومهما كان التزام الدولة في هذا الاتجاه، فإنه لا يكفي.
المطلوب من كل أبناء الشعب الأردني، ومن كل مؤسسات المجتمع المدني، أن تحيط أسر الشهداء بالحب والوفاء، وبالرعاية والاهتمام، ومتابعة أحوالها، وتفقدها، وأن نلتفت جميعاً إلى أخواتنا زوجات الشهداء الكريمات، وإلى أطفالهن من أمثال نغم، وليان، ويقين، والياس، وميار، أن لا يتركوا وحدهم، أن يتم تعويضهم عن غياب الشهيد، ليس بالمال وحده، ولكن أيضاً بالحب، والحنان، والوصال، والسؤال.
إنني أدعو إلى تأسيس صندوق خاص، تحت اسم «بيت الشهيد»، يستند إلى عمل أهلي يؤازر ويواكب الجهد الحكومي، للمساهمة في رعاية أسر الشهداء، ليس عن طريق صرف شيكات شهرية فقط، وإنما عن طريق تواصل حميمي من أب، وأم، وأخ، وأخت، يقول لأسر الشهداء: لستم وحدكم.
تعازي الصادقة إلى أسرتي الشهيدين، وما الأمن الذي نرفل بنعمته في البلاد، والاستقرار الذي نحظى به في صباحاتنا ومساءاتنا، إلا بفضل تضحيات يجب تعظيمها، وعدم التعامل معها بعاطفية لحظية، سرعان ما تنخفض حميميتها بفعل مشاغل الزمن، فلا شيء يجب أن يشغلنا عن الوفاء لدم الأبناء وأرواحهم العطرة الزكية، ورحم الله شهداءنا الأبرار.
الدستور
