صمام الأمان !
تابعت عن كثب، الفيلم الوثائقي الذي أنتجته «نتفليكس»، عن قاتل الفاتنات في الولايات المتحدة في السبعينات من القرن الماضي، والذي سجل رقماً قياسياً يعادل أو يفوق عدد جرائم سفاح لندن. «تيد باندي» اسم معروف في تاريخ الجريمة في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم كله، وربما يكون هذا هو الإنجاز الوحيد الذي استطاع تحقيقه من وراء جرائمه لأنه سعى خلال جلسات محاكمته إلى الشهرة.
الرغبة في القتل، دفعت القاتل للتنقل بين كاليفورنيا، وأريغون، وواشنطن، وفلوريدا، وايداهو، ويوتا، وكولورادو، ينتقي ضحاياه من فتيات شقراوات جميلات بين سن الثامنة عشرة والرابعة والعشرين، قتل ما يزيد عن ثلاثين فتاة خلال الفترة من 1973 وحتى 1978 عندما ألقي القبض عليه.
الملفت للنظر في الوثائقي أنه يثير لدى المتفحص في المضامين، وفي سلوك القاتل وتصريحاته، وأيضاً من خلال دراسة شخصيته الذكية اللماحة، وروحه الحلوة، ووسامته، وجاذبيته، أن القاتل ليس بالضرورة أن يكون عريض المنكبين، وأن ترتسم على وجهه ملامح إجرام كما تم رسم صورة القاتل في أذهاننا ونحن صغار، حتى صرنا نصف رجلاً حاد الملامح بالقول: «شِكله زي القتلة»، والحقيقة بعيدة عن ذلك كل البعد.
كل الافلام المصرية سوّقت لنا القاتل بعضلات مفتولة، وقوة جسدية ضخمة، وتعابير جادة، وصوت أجش، ابتداء من فيلم «من القاتل» الذي تم إنتاجه عام 1956 وأخرجه حسن الصيفي، والذي تذهب فيه سعاد هانم ضحية لجريمة قتل خلال حفل زفاف، أو فيلم «القاتل» عام 1948 لحسين صدقي والذي تقع فيه جريمة قتل يُتّهم فيها عادل والراقصة ناديا، أو «أخطر رجل في العالم» عام 1967 والذي يتحدث عن «مستر أكس» رئيس العصابة الدولية، وكذلك «أرض الخوف» عام 1999 لداود عبد السيد، والذي قام بدور البطولة فيه أحمد زكي، وحتى «الذئاب» عام 1983، و»أبو حديد» عام 1958 لفريد شوقي، كلها ربطت صورة القاتل بصورة نمطية واحدة تتركز على حدة تعابير الوجه، وضخامة الجسد، وخشونة الشخصية، وربما خير من يمثل هذه الصورة، كمثل في سياق، الممثل المصري عبد العظيم خطاب، وكل ذلك غير صحيح.
الواقع يقول أن القاتل يمكن أن يكون دمثاً، وسيماً، خفيف ظل، شديد الذكاء، متعلم، لطيف، أنيق، نظيف، هاديء، ولا يبدو عليه ما يشير إلى ميله للعنف، وهنا مكمن الخطورة، الوحش في الإنسان البشري، يختفي في الدماغ، هناك في حجرة من الحجر الدماغية، قد يغفو شرير وقاتل مجرم.
الأمر الآخر الذي يثير التساؤل هو: «لماذا». لا أحد يعرف تلك اللماذا، عندما يصاب الإنسان بمرض نفسي، فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة كيف يفكر، ولماذا فعل ما فعل، هو الدخول إلى حجرته الدماغية، من منا يستطيع الدخول إلى عقل مخبول لعين، يصبح القتل في حياته كمرض الإنفلونزا، دائماً يعود، وكلما شفي منه، سرعان ما يعود ثانية، وتلك حقيقة، فوالدة «تيد» مثلاً لم تصدق أبداً أن ابنها فعل ما فعل، وأصرّت على أنه بريء من كل التهم التي اسندت إليه في غير ولاية أميركية، ولكنها عندما أسمعها المحققين صوت اعترافات ولدها قبيل إعدامه بايام على كرسي كهربائي في الرابع والعشرين من يناير 1989، صدر عنها أصوات تشبه صوت فأر، قبل أن تقف وتسأل المحققين: من منكم يحب أن يأكل فطيرة تفاح؟ فأكلوا جميعاً فطائر التفاح، وكأنها قررت أن تنسى أن لها ولداً اسمه «تيد»، وقالت: لم يربّ على ذلك !
صحيح أن «تيد» أنحى باللائمة أو المسؤولية على الإباحية التي أوصلته إلى ما وصل إليه، وصحيح أن الطبيب النفسي الذي كلفته الولاية، توصل إلى حقيقة أن «تيد» طفل غير شرعي لأمه، وربما يكون لذلك أثر في انحرافه، لكن من الثابت أن هناك نوعاً من البشر، لا يحمل معه من بطن أمه عندما يأتي إلى هذا العالم، صمام أمان، المسالة لا علاقة لها بالتربية على ما يبدو، ولا بالتعليم بالضرورة، ولا بالظلم الاجتماعي، ولا الإباحية أو التزمت والانغلاق، المسألة هي أن البعض يولد بلا صمام أمان، ومن الخير أن يغيب هؤلاء عن الحياة، خير لهم ولغيرهم، لأن إزهاق النفس البشرية .. أكبر الكبائر.
الدستور