العقلية الإقصائية في الانتخابات البلدية
ذات مرةٍ ذكّرت عائلة كبيرة في بلدة كبيرة رئيس بلديتها حينما (شمّ نفس) عليها. ذكّرته بأنها هي التي أوصلته إلى الكرسي الدوار، ولولا عديدها لما حلم بمسه أو لمسه، حتى لو كان أوردغان أو مهاتير محمد أو آينشتاين. قالوا له بالحرف الواحد: أنت وصلت بنفسنا، وكان بإمكان أحد آخر منا أن يحوز الكرسي.
قريباً من هذه الصورة الموجعة المؤلمة المكرورة، فنحن نعيشُ اليوم أجواء التسخين المتسارع للانتخابات البلدية حيث لا شيء في هذه السوق إلا الاصطفافات العائلية الكبيرة ومفرداتها وخنادقها ومتاريسها وصناديق انتخاباتها الداخليها وفزعاتها. ولولا «فيسبوك» والهاتف الذكي؛ لقلت أننا ما زلنا في القرن السابع عشر. مؤسف أن نعيش ردة بهذا الثقل المتعنت.
حين نشتكي أن بلدياتنا ضعيفة ومجالسها أضعف بلا خدمات ملموسة ودون مستوى الطموح، يضع البعض اللوم على الدولة. مع أن المشكلة برايي لا تكمن في هذا فقط بل إن الأمر يعود إلى تركيبتنا الاجتماعية التي تبدو لي غير قابلة للتغيير. مشكلتنا الحقيقة في عقليتنا التي تستطيع أن تكيّف و(تقيّف) كل القوانين حسب مصالحها ومراميها. عقلية بحسٍّ إقصائي تعرف كيف تجلب النار إلى قرصة خبزها، حتى ولو مات الآخرون جوعاً.
كنت وسأبقى مع تلك اللُحمة الاجتماعية العظيمة الحافظة لتماسك المجتمع بالمحبة والمودة والوئام. ولكني ضد منهج تفكير وتطبيق يقوم على العصبية والقبلية والتعنصر البدائي والإقصائي للآخر. العقلية التي تعلي من شأن رابطة الدم في المسائل السياسية والقيادية والخدمات البلدية، وتقدمها على كل قيمة إنسانية أخرى، حتى لو كانت ذات خير للحياة.
هذا التفكير ما زال يعيدنا إلى العرف العددي المحض الذي كان صالحاً في حقب تاريخية غابرة. أي بقدار عددكم يكون (مددكم). و(عدْ إرجالك ورد المي). أي بعدد (زلمك) تشرب من رأس النبع، وتترك الماء عكراً لمن دونك.
للأسف هذه حالنا اليوم، ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. مشهد لا يسر الخاطر ولا ينبئ بخير. وكأن كل التعليم العالي في وطن استثمر كل ما لديه في التنوير والتفتح والثقافة ذهب أدراج الرياح.
فحينما يتقمص شبابنا المتنورون عقلية هي أشد تمترساً وعصبية وتعنتاً من عقلية أجدادهم؛ يحق لنا أن نشعر بالخوف من انسداد أفق التغيير. للأسف حتى المثقفون والمتعلمون ينقلبون إلى قبليين في مواسم الانتخابات. نحن نتجمّل ونمثل ولكننا عندما نواجه الصندوق نعرف كيف نكون.
الدستور