زمن الطيبين
زمان ، كان الناس أطيب وأنقى ، كنت تفاجأ بالجيران يدلفون اليك حاملين صحن " طبيخ " مما قسم الله ، ليس لأنك بحاجة أو ربما تكون ، ولكن لانهم احبوا ان يمالحوك للمرة الالف، فتتذوق ما اعدته " ام العبد " في مساء شتائي نادف .
لا يقتصر الامر على " صحن الطبيخ " .. ففي المساء تذهب انت هذه المرة مدججا بـ " كيلو سكر " مسكوب في كيس ورقي ومغطى بـ " بشكير " لتبدأ السهرة على ضوء سراج يتراقص في العتمة كنجم يوشك على الأفول .
كنت تستدعي الحاجة " ام انور " على وجه السرعة لأن شقيقك " نزلت بنات أذنيه " وهي متمرسة في تدليك الرقبة وإرجاع البلعوم ، هكذا كنت تعتقد ، وتدور الايام فتتأكد بأن ذلك لم يكن سوى خرافة ، ولكنها " تزبط " في بعض الأحيان .
لم يكن الامر منحصرا بالنقاء ، والإيثار ، حينما كنت تأبى ان يرجع اليك " ابو محمود " الدينارين اللذين استلفهما منك على اقساط ، مع انك كنت بحاجة لـ" القرطة " وهي - إذ ذاك " : قرشان فقط مجتمعان في قطعة معدنية بيضاء أصغر من " التعريفة " لمن يذكرها من ابناء جيلنا العتيد .
في عز الحر ، قد تمد " بربيش " الماء من بيتك لجارك الثالث ، لان الماء مقطوعة عندهم ، وفي الشتاء لا مجال لـ " الصوبة " لأن الكاز عزيز المنال فتتقاسم مع جارك حطب الكانون وتسهر معه على رائحة البلوط قبل ان تقتحم الكستناء الموائد .
كنّا وكانوا ، ورغم انني اكتب من خارج الاردن ومن بلد دافئ ، إلا انني احس بالبرد يلذع الصغار والكبار في وقت تحول فيه الدفء الى هدف صعب الوصول .
ذهب الطيبون الذين كانوا يعبقون بصلاة الفجر على أذان الديك ، وباتت الأغلبية الآن تصحو على الواتس أب والتيك توك والانستغرام وغيرها من أدوات تلويث القلوب والعقول والعقائد ، فتقفز الى الذاكرة تلك الحكايات التي ذهبت مع أولئك الغانمين " العتاقى " .
لقارئ هذه السطور : لنبجل ونحمل برموش العينين من تبقى من أولئك الموشكين على الرحيل ، فلبركتهم شفاء لن يبارى ، ولرضاهم سعادة لن تزول ..
انتبهوا لمن تبقى من آبائكم وأمهاتكم ومن لهم فضل عليكم ، إنهم بقية البقايا من الخير والبركة والرضا ، وبهم ، وبالإحسان إليهم ، تعبرون الصراط الى الجنة لو كنتم تعلمون .
د.فطين البداد