علاقة الحكومة والضمان ونقابة الصحفيين مع الصحف الورقية
لا أعتقد أن الدراسة التي أعدتها نقابة الصحفيين في الأردن لـ " إنقاذ " الصحف الورقية قد تم الإستجابة لها من قبل الحكومة ، حتى وإن قرر مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضي تعديل أسعار الإعلانات الحكومية في الصحف الورقية واعتماد 100 فلس لكل كلمة ، بدلا عن 65 فلسا اعتمدت منذ العام 1973 .
قرار مجلس الوزراء جاء استجابة لضغوط تعرضت لها الحكومة من قبل موظفي الصحف ، وصلت إلى حد التهديد بوقف الطباعة " الرأي " واعتصامات في الشوارع " الدستور " ولقاءات مع ممثلي النقابة في لجنتي الحريات وحقوق الإنسان والتوجيه الوطني النيابيتين .
دراسة نقابة الصحفيين المذكورة تم إعدادها من قبل النقابة والصحف معا ، وخرجت بتوصياتها التي تؤكد جميعها على دعم الصحف الورقية من خلال تعديل تعرفة الإعلان ، والإشتراكات ، وفات هذه الجهات أن الحكومة مفلسة ، ولا تملك تغطية موازنتها السنوية .
والذي يثير الإعجاب ، هو صلابة موقف رئيس الوزراء في هذه الناحية ، حيث حمل " العصا " من الوسط ، وأقول " العصا " لأن إفلاس بعض الصحف الورقية ، أو بالأحرى ، تأخير إعلان إفلاسها يجيء بدعم حكومي استنادا إلى المسؤولية الإجتماعية التي تطلع بها الحكومات ، والصحفيون مواطنون لهم عائلات ، ومن حقهم الدعم ، ولكن : أي دعم ؟ .
إن قرار مجلس الوزراء الذي نحن بصدده ، ليس قرارا تنفيذيا كما فهمه البعض ( باستثناء تعرفة الإعلان المعدلة بحسب الكلمة وإعادة الإشتراكات ) بل لا يعدو أن يكون قرارا بإجراء " دراسة " لتوصيات النقابة الأخرى ، وأن تقوم دائرة اللوازم العامة بوضع أسس لنشر الإعلان الحكومي في الصحف الورقية ، وأن يتم ذلك بحسب أوامر الطبع وعدد النسخ المطبوعة وحجم التوزيع ، وأن يجري كل ذلك تحت رقابة ديوان المحاسبة .
وأيا كان الأمر ، فإن على الصحف الورقية – أخص بالذكر شبه الحكومية - أن لا تفرح كثيرا ، ذلك أن الإنحناء للعاصفة قد لا يطول كثيرا ، خاصة وأن المشتغلين في الإعلام الورقي يعرفون بأن اشتراك الوزارات بخمس نسخ ، والمؤسسات بثلاث ، يتم دفع تكاليفه من الموازنة العامة ، ونذكر جميعا كيف أن إلغاء العمل بالتوقيت كلف الحكومة ما يصل لعدة ملايين دون العشرة ، فتم " تدبيرها " بطريقة لا يعرفها أحد حتى الآن ، وإن هذا الإجراء الحكومي لا يحل أزمة الصحف التي وجب عليها تطوير نفسها لتنافس الصحافة الألكترونية ، ولا يكفي أن تؤسس كل صحيفة لنفسها طبعة ألكترونية لتدخل بوابة الإعلام الرقمي ، بل يجب أولا تغيير العقلية في التعاطي مع الخبر ، وخلق حوافز حقيقية للصحفيين بمكافأة المبدع والخلاق : أي التمييز بين الصحفي العامل والصحفي الخامل ، وأن تبتكر هذه الصحف وسائل جذب تنافسية تدفع بها كل لحظة وكل حين إلى أن تكون حاضرة أمام القراء باحترافية طرحها، وقوة خبرها ، والأهم من كل ذلك مصداقيتها وجرأتها وشفافيتها : فتعاملها مع القارئ " الإنسان " أكبر تحد لها لكونه يرى غيرها ويسمع من سواها .
إن صحفا مثل نيويورك تايمز ، وواشنطن بوست تلجآن إلى نشر مقاطع فيديو من اليوتيوب لقراء عاديين ، وقد يكون تصوير هذه المقاطع رديئا وتم بهاتف نقال ، أو كاميرا بدائية ، ولا يعني هذا أن هاتين الصحيفتين أفلستا خبريا ، بل يعني أنهما فهمتا لغة العصر التي يبدو أن " بعض " الصحف - أقول بعض - لا تريد أن تفهمها ، ولا يجب أن ننسى بأن واشنطن بوست ألغت طبعات العديد من إصداراتها وسرحت مراسليها في عدة ولايات ومدن أمريكية جراء التنافس بين الورقي والرقمي ، وعليه قس ، ولعل من التفكر والتدبر معرفة كيف أن صحيفة مثل " ديلي ميل " تمكنت خلال شهر من تسجيل دخول على موقعها الألكتروني وصل إلى 45 مليون متصفح ، وكلك موقع نيويورك تايمز الذي سجل دخولا وصل إلى 44 مليونا في شهر واحد .
إن بإمكان الصحف الورقية تخفيض ثلثي تكاليفها من خلال الحضور الألكتروني ، وأن تتخذ القرارات الصائبة في كل ما يتعلق بذلك ، لا أن تطلب من الدولة دعمها ، ومن الضمان الإجتماعي البقاء على صمته عنها ، فالقضية قضية نهج مريض لا ينفعه استبدال الأعضاء ، وقضية نزيف مستمر لا يتوقف فقط بضخ الدماء التي تتبرع بها الحكومات من شقاء الناس وعرقهم وكدهم .
إن في الصحف اليومية صحفيين أساتذة محترفين ، وإنه من الغبن ، أن تدفع رواتبهم من جيوب المواطنين بواسطة موازنات الحكومات ، ومن ادخارات الأردنيين في الضمان ، ومن حق هؤلاء أن لا تزاحمهم " الحمولات الزائدة " والزمالات البائدة .
أسأل الضمان هنا : ماذا سيكون موقف إدارته إن ووجهت بقضية يرفعها أي مشترك ، يشكو من هدر ادخاراته ، وبعثرة أمواله ؟؟ .
إن أموال الضمان مدخرة لأجيال الأردنيين ، وإن إنفاق أي قرش من ادخاراتهم يتطلب موافقتهم أولا ، وإلا فإن القضية تصبح ذات معنى آخر ، والمعنى المقصود ليس في بطن الشاعر .
د . فطين البداد