اقتراض الرواتب
لأول مرة في التاريخ القريب تصارح حكومة أردنية الشعب بواقعها المالي العصيب الذي يصل لدرجة الإستدانة من أجل الرواتب .
فقد كشف الدكتور رجائي المعشر ، نائب رئيس الوزراء خلال ندوة في غرفة تجارة الاردن عقدت نهاية الأسبوع : أن الحكومة تقترض من أجل دفع الرواتب لكون النفقات الجارية تفوق الإيرادات المحلية حيث يتم تمويل العجز سنويا من خلال الإقتراض .
هذه إذن ، أول محطة مهمة من محطات هذه الحكومة التي خرجت عن تقليد الحكومات السابقة ، حيث كنا نسمع " تلميحات " تحتمل أكثر من تفسير من قبيل : إن الاقتصاد يعاني .. هو في غرفة الإنعاش .. صعب للغاية ، وما إلى هنالك من تشخيصات غير علمية لما يعانيه الأردن حقيقة وبدون لف ودوران .
لقد بات الأمر واضحا الآن ، وتبين للجميع وعلى لسان نائب رئيس الحكومة أن الأموال التي يتم اقتراضها هي بالفعل لتغطية رواتب الموظفين ، ومع أن الأمر كان معروفا على صعيد الخبراء والمطلعين والمشتغلين بالإقتصاد ، إلا أنه بات الآن واضحا للعامة ولرجل الشارع وللموظف البسيط والكبير ، حيث : لا رواتب بدون اقتراض ، ولهذا السبب فإن المديونية لا تكف عن الإرتفاع .
وعلى ذات النهج أعلنت الحكومة بأنها أرسلت لمجلس الأمة مشروع قانون التقاعد المدني ويتضمن منع الوزراء الذين لم يخدموا سبع سنوات من تقاضي رواتب تقاعدية ، وهو إعلان جاء كما يبدو - لطمأنة الرأي العام أن الحكومة تفي بوعدها وبأنها جاءت بنمط جديد في الحكم عماده الصراحة والمكاشفة والعدالة وفق ما يروج مؤيدوها .
ما أعلنه المعشر يخدم هدف الحكومة في وضع الجميع بصورة ما تعانيه هي من استحقاقات ، بينما يهدف إرسال قانون التقاعد للمجلس إلى تحسين صورتها وصورة رئيسها ، ولكن يبدو أن خطوة الحكومة في ما يتعلق بقانون التقاعد المدني لم يرح بعض النواب الذين غردوا ضده ، وبعضهم كتب متهكما ، على اعتبار أن هذا القانون هو نفس القانون الذي أقره مجلس الأمة بشقيه ورفض توقيعه الملك في شهر أيلول من عام 2014 بناء على مطالبات شعبية استجاب لها رأس الدولة حرصا على العدالة والمال العام ، الأمر الذي شكل ارتياحا كبيرا في الشارع ، وغضبا شديدا عند " بعض " الذين " طبخوا " القانون بالليل وصوتوا عليه بلمح البصر بعيدا عن الإعلام ، حيث فوجئ الأردنيون بتداولات سرية بين اعضاء مجلس الأمة ما لبثت أن تحولت إلى موقف جماعي بالموافقة على القانون إياه مما أغضب الشارع في حينه فرفض الملك التوقيع عليه لوجود شبهة دستورية فيه .
ولكي لا نخوض في جدال النواب والحكومة حول القانون الذي قالت الحكومة إنها بعثته لمجلس الأمة ، ولكي لا نناقش دستورية ذلك من عدمها وهو ليس موضوعنا على كل حال ، فإنا نود إعادة التنبيه من جديد ، بأن خطوة الحكومة هذه : " أرسال القانون لمجلس الأمة " هي بمثابة سيف ذي حديث : فمن جهة ، هي رسالة من الحكومة للنواب وللشعب بأنها بدأت العمل ، وفي نفس الوقت هي حد قاطع للعلاقة الحسنة بين الرزاز وبين "بعض " النواب الذين سيعتبرون الحكومة خصما لهم ، ونشدد على " البعض " هنا حرصا منا على الموضوعية ، وإذا أراد القارئ الكريم معرفة كيف اقر مجلس الأمة القانون الذي رفضه الملك فبإمكانه مراجعة قناة المدينة نيوز على اليوتيوب ليرى العجب العجاب ، وكيف أنه تم طبخ القانون تحت جنح الظلام ، وفق وصف بعض النواب الذين صوتوا ضده .
من المنتظر إذن حرب ضروس بين الحكومة والنواب في الدورة العادية القادمة ، بل وأيضا في الدورة الإستثنائية التي ستعقد بعد يوم من موعد نشر هذا المقال ، رغم أنها لن تتضمن سوى الإرادة الملكية بانعقاد الدورة لمناقشة الثقة بحكومة الرزاز ، ولما كان الأمر كذلك ، فإن النواب لن ينتظروا الدورة العادية وسيبدأون بمهاجمة الحكومة خلال مناقشتهم للبيان الوزاري .
الأردنيون الآن ، هم غير الأردنيين قبل حراك رمضان وما عرف بمظاهرات الرابع ، هم الآن أكثر وعيا بمصالح البلد العليا ، وتصريح المعشر جزء مهم من تبادل الثقة ، في انتظار مكاشفات ومصارحات أخرى أيا كان الألم الذي قد تسببه للناس ، فأن يتألم الناس وهم يعرفون السبب خير مليون مرة من أن يتألموا لمجرد الألم ، ولكنهم - في المقابل - يريدون نتائج حقيقية تخفف عنهم آلامهم وتطمئنهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم ، ويريدون خلاصا وعملا وليس مجرد إنشاء ومصارحة و" قنابل صوتية " .
د.فطين البداد