اخلعوا عنكم قناع الثورة
في كل يوم جمعة ، بات المشهد العربي وحتى العالمي على موعدٍ مع انتفاضات الربيع العربي الذي امتدت جذوره من تونس إلى مصر فاليمن وليبيا وسوريا... والحبل على الجرار .
ورغم أن البداية كانت من تونس ، إلا أنه يمكن اعتبار الثورة المصرية بوابة لهذا الحلم الجميل ، نظراً لما تشكله مصر من قوة وثقل كبيرين .
ولأن الثورة المصرية لم تتوقف عند الإنتصار على الظلم فحسب ، وإنما بدأت بجني الحصاد من خلال محاسبة الطغاة على ظلمهم وأفعالهم : فكانت لحظات دخول المخلوع حسني مبارك إلى قاعة المحكمة على سرير نقّال ليركن وراء قفص الاتهام - مشهداً تاريخياً وصفحة لا تنسى وعبرةً لكل من ألقى السمع وهو شهيد .
وجمعة ٩-٩ -٢٠١١ التي حملت العديد من التسميات : كلٌّ بحسب موقعه وظرفه التاريخي وتطورات الأزمة في بلده، كانت جمعة مثيرة : فمن اليمن الذي يراوح في مكانه منذ محاول اغتيال رئيسه وإصابته وعلاجه في السعودية ، إلى سوريا التي يطالب شعبها المجتمع الدولي والعالم بالحماية الدولية من آلة القتل والاعتقال والتعذيب ( بعكس موقف الجامعة العربية ) .. إلى مصر وجمعة (تصحيح المسار) التي تجمع فيها الثوّار مجددا في ميدان التحرير مطالبين بتحقيق أهداف الثورة والإسراع في تنفيذ انتخابات حرة ، ونقل السلطة من المجلس العسكري إلى المدنيين وغير ذلك من استحقاقات ..
جمعة تصحيح المسار المصرية ، وأخصها هنا تحديدا ، والتي رافقها فوضى عارمة عقب توجه بضعة مئات من المصريين إلى حيث السفارة الاسرائيلية في القاهرة ليسجـَّـل - لاحقا - حدثٌ صاخب سارعت لنقله - حيا مباشرا - مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة عبر أرجاء المعمورة ، بعد أن قام الشبان بإنزال العلم الإسرائيلي للمرة الثانية من على مبنى السفارة ، كما وحطموا الجدار المحيط بها وكسروا المداخل واخترقوا المكاتب ونهبوا الوثائق ، وكل ذلك دون تدخل للشرطة العسكرية التي كانت متواجدة بالقرب من هذا الحدث " الشعبي " والذي له دلالات غير شعبية لا يعيها غير السياسيين !! .
فمن يُعدّل المسار، وهل هذا سلوك من يُطالب بتصحيحه؟! .
متواطئ ومتخاذل كل من يقول : إن سفارة الإحتلال في أي بقعة من بلاد العرب لا تجثم على الصدور قبل أن تجثم على التراب ، وكاتب هذه السطور شأنه شأن كل أردني فلسطيني عربي مؤمن بالقضية المركزية للعرب ، أدافع عنها ما حييت وألتزم بها وأتطلع إلى نهاية سعيدة مؤزرة لملحمتها التاريخية التي لم تسجل كل فصولها بعد ، ولكنني هنا أرفض أن تشوه صورة الثورة : أن يتم سرقة إنجازها أو أن يتم تهشيم صورتها الصافية ، الناضجة ، فنحن لسنا وحدنا : نحن في بؤرة الضوء العالمية ، محط أنظار العدو قبل الصديق ، معدودة علينا أنفاسنا ، ومحسوبة زفراتنا وشهقاتنا ، وكل ما أخشاه ، من موقعي كمراقب ، أن يحمل هذا السلوك في " باطنه " نوايا جدُّ سيئة ، إن لم أقل " خبيثة " لتشويه صورة الثورة المصرية المظفرة ، وبالتالي تشويه وفشل الربيع العربي بأكمله.. فثورة شعب مصر العظيم منذ انطلاقتها في الـ ٢٥ من يناير أكدت على سلميتها وعلى المظهر الحضاري الذي تمتع به ثوّارها فآثارت انبهار العالم والغرب وغدت درساً يُعلّم ، ومنهجاً يُدرّس..
أما ما شاهدناه - الجمعة الماضية - فلا يمت لأخلاق وفكر الثورة المصرية بصلة، والحديث هنا عما جرى في الأسلوب وليس في الغاية ، ولا يقولن قائل إنني أنتهج نظرية " المؤامرة " .. كلا ، فكل ما أود إيصاله أنني متوجس من أن يكون الأمر مدبرا بليل من قبل أعداء الثورة ، من أمثال أنصار النظام السابق المندسين بين صفوف الشباب الأحرار ، أو من قبل إسرائيل ذاتها ، وما تجربة سفارتها في بيونس ايريس ببعيدة ، والقصد ، كل القصد : تشويه سمعة الثورة المصرية وتشويه فكرها وأحلامها وإظهارها أنها ثورة دهماء وثورة همجيين ، وحاشا ، ثم ألف حاشا : أن يكون ثوار مصر الأبطال من هذا الطراز ، فهؤلاء ليسوا ( كلهم ) هم الثوّار الذين اعتصموا في ميدان التحرير لأيام متواصلة بنهارها وليلها حاملين شعارات الحرية ومطالبين بإسقاط حسني مبارك ونظامه ..
ليسوا هم الثوّار الذين سمعنا أصواتهم عبر المحطات الفضائية تصدح وتنادي بالكرامة والعدالة..
ليسوا هم الثوّار الذين رقصوا وعزفوا وغنوا لمصر الحرّة.. الذين نظفوا ساحات وشوارع بلدهم ونظّموا وحموا بيوتها وأزقتها وأهلها.. ليسوا هم الذين جمعوا التبرعات والأدوية والأغذية ووزعوها على المعتصمين.. ليسوا هم الذين أكدوا وأصروا على سلمية ثورتهم وأحقية مطالبهم..
أخشى ما أخشاه ، أن يكون عشرات البلطجية من المرجفين وممن ساءهم انتصار الثورة قد اندسوا بين صفوف الثوار الحقيقيين ، أخشى أن يكون قد تم نصب كمين محكم للثورة وشبابها للإساءة لمصر وللثورة ولما تحقق حتى الآن ، وإلا فما معنى توجيه الإعلام المصري والعربي والعالمي نحو همجية السلوك وعبثية الفعل ليثبتوا للعالم والغرب وأميركا واسرائيل وحتى للمصريين بأن الأمن والأمان والاستقرار كان مع مبارك ونظام حكمه وأعوانه، وأن الثوّار ما هم إلا مجموعة مخربين عابثين لا تنظيم سياسيا يجمعهم ، ولا وعي ونضج منهجيا يوجههم ، ولا خطط واستراتيجيات وقرارات تحكم مستقبلهم..
أخشى أن يكون ما حدث في مصر - الجمعة الماضية - أعمال شغب ، الهدف من ورائها التخريب وإقصاء الحلم العربي ، وبداية " محبوكة ومخطط لها " لفشل وتفشيل الربيع العربي من أجل أن تموت البذور قبل أن تنبت ، وتقتلع الجذور قبل أن تثبت ، وتدفن الثمار قبل أن تؤكل.. وإذ بنا : أرض يباب وقحط وقفر وبيداء ، لا ربيع عربيا لدينا ولا ما يحزنون .
لنكن أكثر وعياً بما يتربص بنا ، ولنقف جميعاً يداً واحدة في وجه أي تخريب وتدمير يفسد أحقية قضيتنا وعدالة ثورتنا ، ولنخلع قناع الثورة عمن يحاول النيل من شرف ثوراتنا فيشوّه أخلاقنا وأفكارنا وأحلامنا ويقمع حريتنا ونضالنا نحو عيش كريم حر نابض بالحياة والقوة والحكمة .
أخشى ما أخشاه ما قلت أعلاه ، وأدعو الله أن أكون مخطئا .
د. فطين البداد