الإعلام المطلوب في هذه المرحلة
كلما قررت مغادرة حقل الاعلام للتجول في حقول أخرى فأكتب عن : السياسة أم السياحة ام الإقتصاد أم الإجتماع ، أجدني أعود القهقرى إلى هذا الحقل الناعم والشائك في آن .
وقد لا يخفى على أحد أن الاعلام بات يلعب دوراً جوهرياً ومفصلياً في حياتنا ، ويتدخل في أخص شؤوننا ويؤثر في كل ما نقوم به و نقدم عليه ، بل بات يسهم في تشكيل وعينا وفي تكوين آلية تفكيرنا وتحديد نظرتنا تجاه ما يجري حولنا من أحداث ، وبلغ تأثيره حد توجيه اهتمام الرأي العام - بكل ميوله - بقضية قد تكون تافهة وإذ بها قضية القضايا وسيدة الحكايا .
والاعلام بكافة أشكاله أصبح هو المتحكم الرئيس في تكوين معرفتنا وتلقينا للخبر، ولم يعد الأمر يقتصر على النقل وحسب ، وإنما تعداه إلى تقديم الصورة والحدث بكافة أبعاده ودلالاته ، رابطاً إياه بالتحليل والنقد ، فتصبح هذه الوسيلة الاعلامية قادرة على جعلنا نفكر بالآلية نفسها التي تريدها هي نتيجةً للرسائل المحددة والموجهة التي تبثها للقارئ والمستمع والمشاهد..
ولكن ، كم من وسيلة اعلامية قادرة على لعب هذا الدور وجذب المتلقي إليها والسيطرة على منطق محاكاته وتفسيره وتحليله للأحداث والمتغيرات؟!..
هو سؤال مشروع ، لكنه بحاجة إلى بحث جاد ومطوّل في ظل هذا العدد الهائل من المحطات التلفزيونية والإذاعات والصحف المقروءة الورقية منها والالكترونية..
كم سمعنا مؤخراً، ومنذ بداية ثورات الربيع العربي، بأسماء محطات تلفزيونية فضائية عربية جديدة يطلُّ علينا منها هذا الشيخ وذلك المعارض ، لكنها لم تلقَ حضوراً ولم تشكل لنفسها قاعدة جماهيرية واسعة وطيفاً اعلامياً حقيقياً ، وذلك لأنها لم ترتقِ - في مستوى الطرح والتقديم والمعالجة والمسؤولية الاعلامية - إلى درجة جذب المشاهد العربي والتأثير فيه حتى وإن اشتغلت على عواطفه المتأججة بفعل الثورات العربية فقدمت ما يهمه ويثير شغفه!! .
وكم من موقع الكتروني اتخذ من الانتفاضات العربية خطاً رئيسا له سواء تلك التي قامت ضد نظام حكم طاغ أو التي تطالب بالاصلاح ومحاربة الفساد من أجل حياة حرة كريمة، لكنه ظل رهينا لحروبه ومعاركه الخاصة ، ورهينا لتصفية حساباته الشخصية ضد شخصيات عالية الشأن في الاسم والفعل والمكانة والتميز، لا لشيء ، ولكن فقط ليبث سمومه وأحقاده دون وجود قضية حقيقية أو مستند أو وثيقة يبني عليها كلامه أواتهامه أو على الأقل سبب تناوله لهذه الشخصية أو تلك، فيفقد قراءه المحدودين الذين باتوا يبتعدون عن صحافة القيل والقال المليئة بالمهاترات والمشاحنات ، باحثين لأنفسهم عن صحافة تقدم لهم المعلومة الصادقة التي تتميز بالموضوعية والشفافية فتعبر عنهم وتنقل وجعهم وتكون منبراً لهم وصدى لأصواتهم.
في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها عالمنا العربي تغيرت نظرة المتلقي للاعلام وتغيرت احتياجاته ومتطلباته ، والأحرى والأنجع بأن يتغير أيضاً أسلوب اعلام اليوم في تعامله مع جمهور اليوم الذي تجاوزت اهتماماته الأخبار السطحية الساذجة التي لا ترتقي - بلغتها ومضمونها - إلى لغة جمهور بات يتحدث اليوم بشعارات الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية .
جمهور عظيم يطلب منا - كصحفيين واعلاميين وكُتاب ومثقفين وسياسيين - بأن نكون على مستوى تطلعاته وطموحاته ، وأن نرتقي - بلغتنا وصورتنا ومعلومتنا - إلى حجم معاناته وتضحياته ونضاله.
يطلب منا كمؤسسات اعلامية أن لا نستخف بعقله وفكره ووعيه ونضجه وقدرته على التحليل والتدقيق، فهو - إن كان إلى هذه اللحظة لا يمتلك حريته في اختيار حكامه وقياداته - إلا أنه على الأقل قادر على السيطرة على مفتاح التلفزيون لديه – مثلا - والتجوال بين مئات المحطات التلفزيونية الفضائية ، ليستقر عند واحدة منها يختارها بعناية لأنها تناسب فكره وذائقته وذكاءه ، أو محرك الانترنت الذي يتيح له الإبحار برحابة في فضاء واسع بلا حدود ، فيلتقط منه المعلومة التي يريد ، بالإضافة إلى أنه قادر أيضا على الإنتقال عبر مؤشر المذياع إلى محطة تطيب أذنه لسماعها، أو اختيار كتاب أو صحيفة أو مجلة يستسيغ تقليب صفحاتها.
لنكن ، إذن ، إعلاماً عربياً مرئياً ومسموعاً ومقروءاً ، جديراً بجمهورنا العربي وبتضحيات شعوبنا العربية التي أعطت زهرة شبابها فداءً وحباً للوطن ، ولحرية وكرامة لطالما أردناها لنا ولأولادنا وللأجيال من بعدنا، لكل من نادى وصرخ بصوته عالياً ، لكل أُمّي تعلم فن الكومبيوتر وتقنياته وسهر الليالي على ضوء شمعة لينير دربنا وينقل إلينا الأخبار والصور والفيديوهات ، فتـُبث على شاشاتنا وصفحاتنا وأثيرنا وتغتاله يد الغدر الطاغية، لأطفال رفضوا الجلوس على مقاعد الدراسة التي قُتل وأ ُهين عليها - هي ذاتها - أباؤهم وإخوانهم، لكل الأمهات الثكالى اللواتي قدمن قلوبهن فداء لتراب الوطن فتبرعمت شقائق نعمان ودعت بالزفة والزغاريد.
أي كلام أبلغ وأي صورة أشد تأثيراً من نداءات شعوبنا ومشهد استشهاد أبنائنا وحمرة دمائهم وطهارة أجسادهم المرفوعة على الأكتاف عالياً في السماء ، ترفرف في فضاءات لابد أن تكون على مستوى اللحظة والحدث ، وإلا ، فالواقع سيرفضنا ، والتاريخ سيلفظنا كغثاء السيل ... !.
د. فطين البداد