القذافي : عبرة للطغاة ودرس في التاريخ
مات الطاغية معمر القذافي ، هذا هو الخبر الأول والأهم الذي تصدرته عناوين الأخبار وتناولته وسائل الاعلام في ما بينها على مدى اليومين الفائتين ، ولحقت بها مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تتوقف عن نشر فيديوهات وصور وتعليقات عن هذا الحدث التاريخي الذي هو بداية مرحلة جديدة من مستقبل ليبيا الحرة.
هل كان يخطر ببال القذافي ، ملك ملوك إفريقيا ، وعميد القادة العرب وصاحب النظرية الثالثة بأنه - يوماً ما - سيلقى مثل هذا المصير ، أو يذل كل هذا الذلّ مخاطبا الثوار الذين ألقوا القبض عليه : يا ابنائي ؟؟ ..
لقد عرفهم القذافي إذن ، بعد أن خاطبهم في السابق :
من أنتم؟ وتارةً أخرى: أيها الجرذان ؟؟ ..
لقد عرف أنهم أبناء ليبيا، أنهم الشعب الليبي العظيم، الشعب الليبي الحر، أحفاد عمر المختار..
ما استرعى انتباهي خلال مشاهداتي وقراءتي لبعض التعليقات على خبر اعتقال القذافي ثم قتله ، هو إحساس البعض بالمرارة على هذا المصير الذي لاقاه زعيمٌ عربي، وبالمرارة من سلوك ثوّار ليبيا والمجلس الوطني الإنتقالي على مشاهد العنف والتعنيف الذي لقيه العقيد ، رغم أنه " اسير " و " جريح " وما إلى ذلك مما يتعلل به المعترضون على سوء معاملة الرجل ، حيث اعتبر هؤلاء بأن هذا السلوك ، لا يبشر بمستقبل حضاري لليبيا تسوده العدالة والإنسانية ، والديمقراطية ، وإنما سيخلق لنا زين عابدين وحسني مبارك وبشار أسد وعلي صالح ومعمر جددا ليس إلا .
ولكني أقول : لقد تحولت مشاهد الدماء والقتل والموت التي نراها منذ بداية عام ٢٠١١ إلى مشاهد وصور اعتيادية تألفها الأعين ، فبعد أن كنا نعلن استنكارنا لها ، ونقشعر لرؤيتها ، إذ بنا – راهنا - نحللها تارة ، ونفندها أخرى ، مرة نقول : هذه هي الرصاصة التي دخلت في عنقه وخرجت من ظهره ، وها هنا ضُرب في رأسه ثم نال رصاصة في أحشائه ، ونعود نكبّر ونقرب الصورة أو نبعدها أو نركز على طرف خفي منها لتتحول كل هذه الصور الدامية ، المرعبة ، غير الأخلاقية وغير الإنسانية إلى أقل من صور " عادية " نراها ، بل يراها بعضنا وهو يأكل أو يشرب دون أن يرف له جفن ، أو يخفق له قلب ، بحيث أضحت أمراً عادياً لا تقشعر له الأبدان ولا يتهيب منه الوجدان..
وكم كنت آمل بدلاً من مشاهد القتل والخراب والدماء والموت في شوارعنا ومدننا العربية، أن نتابع إنجازات شعوبنا العربية في العلوم والفكر والأدب والفنون وكافة المجالات الإنسانية، ونشاهد أطفالنا يبدعون ويرقصون ويمرحون بحرية، نشاهد ألوان فرحهم وطفولتهم تنمو وتكبر وتعيش بحرية وكرامة وسلام..
إلا أن حُكامنا العرب ، هم ولا أحد سواهم ، من ألغوا صور الفرح من ألبوماتنا واستبدلوها بصور الدم والقتل والدمار، هم الذين علمونا - كشعوب - معنى الحقد والثأر والانتقام، هم الذي درّبونا كي نصبح وحوشاً، هم من ألغوا إنسانيتنا بعد أن عشنا تحت حكمهم بالظلم والتعذيب والاستغلال والاستبداد..
من أين لنا الإنسانية والرأفة والطيب بعد أن اعتبرونا مجرمين وعبيداً و جراثيم وجرذانا !!..
كيف للأب والأم والزوجة الذين فقدوا إبناً وأخاً وزوجاً وحبيباً أن ينسوا آلامهم وجراحهم ومرارة فراق أحبتهم ويقابلوا من تسبب لهم بالعذاب بالرياحين والقوانين والإبتسامات ..
كيف لهم أن يقتلعوا صور القتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب من حدقات عيونهم ، كيف لهم أن يلغوا ذاكرتهم وحقهم بالقصاص الذي فيه حياة لأولي الألباب ؟؟ ..
لم يخلق ثوار ليبيا أنبياء ، بل إنهم لم يجدوا أدنى حقوق المواطنة في تداول السلطة ، وأدنى حقوق العدالة في توزيع الثروة ، وأدناها في شغل المواقع العامة ، لم يخلق أولئك الذين ووجهوا بالقتل والعنف لأربعة عقود ونيف صدّيقين ورهبانا لكي نطلب منهم اليوم أن يتجرّدوا من كل هذا العنف الذي لاقوه في حياتهم ومورس عليهم فنحاسبهم على اللحظة التي قبضوا فيها على قاتلهم ومعذبهم ومشردهم .
لعلَّ في الصور التي رأيناها ورآها العالم للقذافي مسحوباً كالجرذ عبرةً لمن يعتبر : فأعداد القتلى الذين شاهدناهم يوم الجمعة الماضي في سوريا – مثلا - والتي حملت اسم (جمعة المهلة العربية) قد تحولت إلى ( جمعة شهداء المهلة العربية) في حمص وحوران تأكيداً على أن الطُغاة لا يعتبرون ولا يفهمون الدرس ، ولا يريدون أن يسمعوا أو يعوا بأن إرادة الشعب لا تقهر مهما طال الزمان ومهما تجبر الطواغيت ، إذ لا بد أن يأتي يوم يستجيب فيه القدر لإرادة شعبٍ حر ضحى بنفسه وماله فداءً لوطنه..
رجل كالقذافي أذاق شعبه الأمرين خلال ٤٢ سنة بسبب نرجسيته وجنون العظمة لديه ، ختم سنيـّه تلك بأن أذاق شعبه 9 أشهر إضافية من العذاب مع أنه كان باستطاعته حقن الدماء وحماية الوطن بتنازله عن السلطة وفك " صمغ " الكرسي الذي التصق به.. رجل كهذا يستحق مثل هذا المصير ويستحق هذه الخاتمة ، فقد عاش ضاحكاً وها هو يموت مضحوكاً عليه ..
يُقال أن بورقيبة وفي إحدى سجالاته مع القذافي حاول إقناع الأخير بأن يقلل من حجم إنفاقه على التسلح ويزيد من تعليم شعبه، فسأل القذافي بورقيبة: لماذا؟ ألا تخاف من أن يثوروا عليك لو علمتهم؟ أجاب بورقيبة: أفضل أن يثور عليّ متعلمون من أن يثور عليّ متخلفون " .. ..
إن على الشعب الليبي الحر اليوم استحقاقا أساسيا في بناء ليبيا الحديثة، فمقتل القذافي ما هو إلا بداية مرحلة بناء ليبيا ، بداية العمل بجد وإخلاص لبناء هذا الوطن المنهك.. لذلك فلننس أحقادنا ولنعد أسلحتنا إلى المستودعات في كنف الدولة والحكومة ، ولنعقد مصالحة وطنية ولنسامح من أساء إلينا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، ليكن هدفنا الأول وغايتنا الأسمى هي بناء وطن العدالة والديموقراطية ، وطن العلم والأخلاق ، وطن الحرية والمساواة، لنجعل من ليبيا - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً - عبرةً للطغاة ودرسا في التاريخ .
د. فطين البداد