حكام .. مرضى ( نفسيون )
سجلت البشرية - عبر تاريخها الحديث - العديد من القادة الديكتاتوريين، لعلّ أشهرهم هتلر وستالين وليس آخرهم القذافي ومن لف لفه من أمثال علي عبد الله صالح وبشار الأسد وغيرهما .
كان من أهم ما يميّز هتلر وستالين، ديكتاتوريتاهما و " الأنا " المستبدة العالية لديهما ، وخطاباتهما المشهورة بقوتها وجبروتها بحيث كانت تهز العالم وتجعله يقف على رجل واحدة ، وكان من آثار ذلك تجييش الملايين لتنفيذ قرارات ماحقة خلفت كل أولئك القتلى والجرحى والمشوهين سواء من شعبيهما أو من شعوب أخرى .
ومع هبوب رياح الربيع العربي ، بدأنا نكتشف، كشعوب عربية ، بأننا محكومون من قبل أشخاص بعضهم مرضى نفسيون، واتضح ذلك عيانا حينما تعرضوا لمواجهة مباشرة مع الجماهير ، إذ إنهم ومن فرط المفاجأة التي لم تكن تخطر لهم على بال ، أضحوا مثارا للسخرية والعجب العجاب ، دون أن يتعلم أحدهم من الآخر ، لكأنهم قرأوا على شيخ واحد ، أو تعلموا على طريقة واحدة كيفية التعاطي مع الغضبة الشعبية باستخفاف واستهبال ، حتى بات المرء يعتقد بأن هذا البعض من الحكام ماض فعلا وفق سيناريو واحد لكاتبٍ واحد دون أن يستفيد أحدهم من أخطاء الآخر أو من مصيره المشؤوم ، حيث نجدهم ماضين في تمثيل أدوارٍ تقمصوها دون أية قدرة على الارتجال أو التغيير، وها هم يخرجون على شعوبهم الثائرة المطالبة بالحرية والكرامة بخطابات ترفض وتستنكر هذه الغضبة واصفة أصحابها - وهم هنا الشعوب المظلومة - بأنهم : " جرذان " أو " جراثيم " أو " إرهابيون مسلحون " أو حتى " كائنات فضائية " هبطت من الفضاء فعكّرت صفو حياتهم..أو نراهم يجمعون من حولهم - في خطابات أخرى - " سحيجتهم " من المطبلين والمزمرين وحاملي المباخر من أولئك الذين أعمت قلوبهم وبصرهم وبصيرتهم مصالحهم ، أو خوفهم من طغيان واستبداد حكامهم، وإذا هم متسمرون في مقاعدهم لساعات يسمعون كلاماً معسولاً وتحاليل واستشهادات مضحكة ، وسردا لتاريخ كفاح طويل ونضال مزيف، وتذكيرا بإنجازات لم تتحقق أصلا ، وإصلاحات في الهواء ، ليتحول المشهد إلى شخص يخرج على الصحافة بمظهر أنيق ، ولسان طليق ، ونتعرف عليه وإذ به " الناطق الرسمي " ، فيبدأ هذا الناطق " الوسيم " بتصحيح وتفنيد وشرح مفردات كلام سيادة الرئيس ومدلولات تصريحاته وإجاباته ويوضح بثقة مصطنعة لأهل الاعلام والصحافة وللجمهور المحلي والدولي ما قصده صاحب السيادة من كلامه هنا ، وما لم يقصده هناك ، وما يجب فهمه هنا ، وما لم يجب فهمه هنالك ، وهلمجرا .. .
لقد تابعنا مؤخراً - في أكثر من مناسبة - ظهور قادتنا العظام ليعلنوا على الملأ تمسكهم بمطالب شعوبهم وعزمهم على الاصلاح والتغيير واستعدادهم لتقديم كافة الاحتياجات للناس وتفضيل المصلحة العامة " مصلحة الوطن " على مصالحهم الشخصية، لكننا شهدنا ونشهد في الوقت نفسه - على الجانب الآخر من الشاشة - صور القتل والتمثيل بالجثث وآثار العسف والقهر والتعذيب والتنكيل ، ونسمع تأوهات وصيحات الأمهات الثكالى وحرقة الأباء المكلومين المعذبين .
من منا ينسى جملة علي عبد الله صالح الشهيرة : " أنا على استعداد " حيث كان ( فعلاً ) على استعداد لكن : لمواجهة شعب اليمن الحر بأبشع وأقسى أنواع القتل والقمع ، وهو الذي لم يتركه إلا عندما أخفق في إسكاته وفي إخماد نار ثورته السلمية، فانتقل صالح من حالة " الإنكار " إلى حالة " الإقرار " بالواقع المحلي والاقليمي والدولي وانسحب باسم المبادرة الخليجية التي قدمت له الضمانات بحمايته وحماية أفراد أسرته ونظام حكمه المقربين ، ولا ندري ماذا في جعبة الايام .
من منا ينسى معمر القذافي حينما خرج على سطح إحدى البنايات التابعة له وبدأ يخطب في شعبه ويدعوه لأن يمرح ويرقص ويفرح لأن النصر قريب وأنه سيقضي على المؤامرة الصهيونية الأميركية الأوروبية التي تستهدفه وتستهدف ليبيا .
أيضا شاهدنا بشار الأسد يعلن - عبر وسائل اعلامه لشعبه وللعالم - انتهاء المؤامرة على سوريا وسيطرة الأمن والجيش على مجريات الأمور وتطهير البلاد من " الإرهابيين " والعصابات المسلحة " .. لكننا وفي التوقيت نفسه لهذا الظهور الساطع نقرأ ونسمع ونشاهد مقتل ومصرع العشرات يومياً واعتقال المئات وحصار المدن والبلدات بالدبابات والجيش والأمن والشبيحة .
.. الأمر سيان بين إعلان القذافي بأنه ليس رئيساً على ليبيا وإنما هو قائد ثورتها إذ لو " لو كنت رئيسا لرميت الإستقالة في وجوهكو " كما صرح ذات مرة ، وبين الأسد الذي أعلن في لقائه الأخير مع باربرا والترز، بأنه غير مسؤول عن العنف الذي يحدث في سوريا فهو لا يقود الأجهزة الأمنية ولا الجيش لأنه رئيس للبلاد وليس مالكاً لها.
وتتشابه المشاهد رغم تعددها : فمثلما رأينا القذافي يسخر ويضحك في ظهوره الاعلامي المتكرر وابنه سيف الاسلام يهدد ويتوعد بينما ليبيا تحترق وشعب ليبيا يُقتل على يد مرتزقته .. رأينا بشار الأسد يقهقه ويهزأ من الاعلام الدولي ، ورأينا وزير خارجيته وليد المعلم يمحو قارة أوروبا من على خارطة العالم ، ويستعرض فيديوهات ثبُت بالدليل القاطع زيفها وكذبها واختلاقها .
وكما سبق وشهدنا الظهور الاعلامي التافه للناطق باسم الحكومة الليبية موسى ابراهيم، الذي طالما اعترض واستنكر ما تناولته الصحافة العربية والعالمية بشأن ما يحدث في ليبيا وما فيها من مغالطات واتهامات باطلة كما كان يقول ، يطلُّ علينا جهاد المقدسي الناطق الرسمي باسم الخارجية السورية ليوّضح للعالم وجهة نظر رئيسه الأسد بعد لقائه الأخير " الذي فُهم بشكل مغلوط " معللاً ومفسراً تصريحات سيده الذي يعتمد دائماً، بحسب رأي المقدسي، الأجوبة الجادة والصريحة.
إن هذا الإنكار وهذا الإستغباء وهذا الإستعلاء الذي يعيشه بعض حكامنا العرب ، وهذا الإفراط في الوهم والتوهم والإنفصال عن الواقع ، سوف ينعكس بما يشبه " العدوى " على البقية الباقية من " بعض " حكام ينتظرهم مصير أسود ، لا يقل قتامة عما انتهى إليه القذافي وصالح وبن علي ومبارك .
د. فطين البداد