بين " الذمة المالية " و " من أين لك هذا " ؟
في زمن الربيع العربي ، وبعد أن كانت الشعوب العربية تخاف من حكوماتها أصبح على هذه الحكومات أن تخاف من شعوبها، لأن الشعب العربي خرج من زمن ودخل آخر : خرج من الخوف والخنوع والسكوت والذل ودخل زمن الثورة والأنفة واحترام الذات .
حكومات كثيرة غيرت من نهجها في تعاملها مع الناس ، بعد أن لاح فجر جديد على الأمة ، قــُدحت فيها شجاعة القلوب ، فأضاءت لها مغاور الدروب .
...
تعمل الحكومة الأردنية على صياغة مشروع قانون "من أين لك هذا؟ " الذي ستقدمه إلى مجلس الأمة فور الانتهاء منه بحيث يضمن هذا القانون نظام مراقبة مالية على كل من يتولى مواقع القرار في الدولة .
ليس شرطا أن ينظره المجلس السادس عشر ، إن كان زمن هذا المجلس أزف على الرحيل ، فالتشريع لا يتوقف عند مجلس بعينه ، ولا حكومة بذاتها .
القانون يفرض على كل مسؤول تسجيل كل ما يملك قبل توليه منصبه من ثروة أياً كان نوعها، ثم يُحاسب بعد تركه المنصب أو حتى أثناء العمل في حال وجود زيادة غير عادية في ثروته وأحياناً في ثروة أقاربه خوفاً من أن تكون هذه الزيادة ناتجة عن أعمال غير المشروعة.
لا يخفى على أحد أن بعض الوزراء أو المسؤولين الفاسدين ينقلون الأموال والممتلكات والوكالات لحساب زوجاتهم وأولادهم وأقاربهم للتحايل على القانون وإيهام الناس بأنهم في غاية البراءة ، وهي نقطة أعتقد أن مشروع القانون الجديد سيعالجها بحسب ما رشح لدي من معلومات ، فلقد تبينت من مشروع القانون الذي حصلت على نسخة منه أن الزوجة والاولاد الذين سماهم القانون " القصـّر " مشمولون فيه .
لقد رأينا وزراء ومسؤولين يمتلكون قصوراً وعقارات وشركات مع أن مصادر دخولهم لا تتعدى رواتبهم ومخصصاتهم ، وأصبح التساؤل مشروعا عن مصادر هذه الأموال و " الخيرات " التي ينعمون بها و " يتبغددون " بلبنها وعسلها على حساب الناس الفقراء البسطاء الذين بالكاد يدفعون إيجارات منازلهم ، أو فواتيرهم من شهرية وفصلية وسنوية ، وهو أمر صارخ وواضح ، وليس بحاجة إلى أي إثبات عن أنهم ولغوا في الدماء واقتاتوا من لحوم المواطنين وهم هانئون مبتسمون ، ففي الوقت الذي وصلت فيه مديونية البلد إلى ما يقرب من 18 مليار دولار بحسب آخر القراءات ، أضحى هذا القانون – إن قدر سنه ونفاذه – ( هذه سأعود إليها ) المعيار الأول للإصلاح ، لأن محاسبة الفساد والفاسدين والمرتشين هي أولى رايات الإصلاح التي يستحق بلدنا أن تخفق فيه عاليا في كل وقت وكل حين .
قانون " من أين لك هذا " ليس ابتكاراً أو اختراعاً لنا نمنُّ به على مواطننا الأردني، بل هو قانون تعمل به أغلب دول العالم المتقدمة حيث يطبق على المسؤولين كبيرهم وصغيرهم لضمان نظافة ونزاهة أدائهم.
إن من أبسط حقوقنا الشرعية – كمواطنين - هو محاسبة المسؤولين المؤتمنين على ثرواتنا، ومن أبسط حقوق أي شعب محاسبة ومحاكمة رؤوس الفساد الذين استحلوا ثرواته وخيراته.
إن مظاهرات الجمعة الفائتة التي عمت أرجاء المملكة تطالب بالإسراع بعملية الإصلاح ومحاربة الفساد و بإصدار قانون "من أين لك هذا " وإرجاع أموال الشعب إلى خزينة الدولة، ما هي إلا ثمرة من ثمار الربيع العربي التي ستكون بدايةً للإصلاح السياسي والاقتصادي في الأردن الذي نحب ونعشق .
وعودة إلى تخوفي أعلاه من أي تأخير في سن القانون ونفاذه ، فإني أذكر القراء الأعزاء بأن قانون " الذمة المالية " النافذ الآن ، كان ثوبا بديلا لقانون " من اين لك هذا " غير أنه تم تبييته في الأدراج ، أدراج مجلس الأعيان شهورا طوالا ، وبات محل صراعات : هل يشمل القانون النواب ، هل يشمل الأعيان ، هل يشمل رؤساء النواب والأعيان ، من بالضبط يجب أن يشمل القانون ؟؟، وأذكر أنه في المجلس الرابع عشر كان السجال محتدما ، فتم " مسخ " قانون " من أين لك هذا " والإستعاضة عنه بقانون " الذمة المالية " وهو قانون - للأسف – قاصر جدا عن محاربة الفساد والفاسدين ، ومجمل المآخذ عليه ليس بوسعنا هنا تناولها ، ولكن ابرزها : أن المسؤول أو الوزير – أيا كان – بإمكانه تسجيل أموال بمبالغ غير صحيحة ، مع أن الصحيح أقل منها بكثير ، فيدفع بأموال إضافية إلى أرصدته فيتم له تغطية ما سجل ، لأن سرية التسجيل في القانون النافذ مضمونة ، وتكتفي دائرة الذمة في وزارة العدل ببيانات الذين يشملهم القانون ، ولا يشترط في الأغلب الإتيان بما يعزز مزاعمهم ، وهذه أبرز المآخذ التي أخذت على قانون " الذمة " .. أما القانون الجديد " من اين لك هذا " فإنه سيكون قانونا عظيما إن شمل الزوجة والاولاد القصر وبيانات موثقة عن أحجام الأموال ، ولكن الثغرة التي أخشى أن ينفذ منها اللصوص المفترضون هي ثغرة المكان الذي تسجل فيه الأموال ، دون أن يعني هذا أن دائرة الذمة الموجودة بوزارة العدل عليها خلاف ، أبدا ، ولكن لأن الذي يجب أن ينظر في " من أين لك هذا " هو القضاء وليس الحكومة ، ووزارة العدل ، مع احترامي الشديد لها ، تتبع الحكومة ، ولا تتبع القضاء الذي فعل دوره الدستور الجديد ( التعديلات ) وجعل مجلس القضاء الأعلى هو الذي يشرف على القضاء برمته ، وأصبح دور وزارة العدل في التعديلات الجديدة دورا غير محوري ، بل أصبحت دائرة الإدعاء العام ذاتها تتبع القضاء وليس الوزارة بحسب ظني ، ومن هنا ، فإنه يجب أن يتبع القانون دائرة تحت إشراف القضاء ، وليس أي هيئة تتبع الحكومة لكي لا يكون تحت هيمنتها وجناحها .
لكل ما ذكر : فإن هذا القانون سيكون من أجمل نتاج الديموقراطية التي حملتها إلينا رياح الربيع العربي، وسيكون سنّ هذا القانون والعمل به والإصرار على تنفيذه دليلا على مقدرة حكومتنا على استبيان يقظة الشارع الأردني ورغبته في تطبيق العدل والمساواة والحصول على حقوقه المسلوبة، ليصح فينا المثل القائل ( أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً ) .
د.فطين البداد